مرويات قومية

الأمين حسن ريدان… «ما أروع أن يشاهد المولود الجديد مراحل ولادته بنفسه»

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ «البناء« هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات مشرقة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة، وقد سجلت في رصيد حزبهم وتاريخه، وقفات عز راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا أي تفصيل، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
أنّ نكتب تاريخنا،..فإننا نرسم مستقبل أمتنا.

إعداد: لبيب ناصيف

الأمين حسن ريدان…
«ما أروع أن يشاهد المولود الجديد مراحل ولادته بنفسه»

 

شهدت عين عنوب، وقرى عديدة في منطقة الغرب حضوراً لافتاً للحزب، وكما قدمت في درب النضال القومي الاجتماعي شهداء خالدين برز من أبنائها أمناء ورفقاء مناضلون كتبتُ عن البعض منهم وأتيتُ على ذكر الكثيرين، على أمل ان أتمكن من الكتابة عنهم.
من هؤلاء يحتل الأمين حسن ريدان، الشاعر والأديب والمناضل والمشعّ مناقب وثقافة ووعياً قومياً اجتماعياً، حضوره المتقدّم الى جانب أمناء ورفقاء عرفتهم، وعرفت جيداً سوية إيمانهم وثقافتهم ووعيهم وتفانيهم. ارجو ان يمدّ الله بعمري ويقدّم لي العافية فأستمرّ في عملي لمصلحة تاريخ الحزب وأكتب عن الكثيرين ممن عرفت، ويستحقون ان يكون لكلّ منهم حضوره في ذاكرة الحزب.
*
بتاريخ سابق كنت نشرتُ نبذة عن الأمين حسن ريدان، وبتاريخ لاحق نشرت ما كان أورده الأمين مصطفى الشيخ علي(2) في كتابه “في مواكب النسور”.
لقد وجدت ان أجمع النبذة، والكلمة في نبذة واحدة تحمل اسم الأمين الشاعر حسن ريدان، وتهدى لكلّ من عقيلته، السيدة الفاضلة التي كانت تتألق بحضورها البهي المرحومة هند أحمد صعب والى ابنه الرفيق كريم الذي عرفته طالباً متفوّقاً في جامعة LAU ثم عرفت عنه مؤهّلاته في إدارة الشركات التي تولاها. وقد خسرناه بعد عشرة أيام من رحيل والدته الفاضلة هند.
***
يفيد الأمين جبران جريج في الجزء الأول من كتابه «من الجعبة» وفي القسم الذي يغطي «سنة الانتشار 1934-1935، التالي: «اثنان لعبا دوراً بارزاً في هذه المنطقة المؤلفة من الشويفات، بشامون وعين عنوب، هما رفيق الحلبي وشارل سعد، ثم يوضح أنّ الرفيق نجيب طعان صعب (الأمين لاحقاً) انتمى على يد الرفيق رفيق الحلبي، والرفيق طنوس نصر على يد شارل سعد.
ويضيف الأمين جريج: “أما في عين عنوب وبشامون فقد وصلت الدعوة إلى عين عنوب أولاً عن يد الرفيق حسن قائدبيه وهو من أبنائها الذي أطلع نسيبه حسن ريدان على وجود الحزب «السري» الذي كان انتمى إليه في الجامعة الأميركية. وبواسطة الرفيق فكتور أسعد الذي كان يتولى عمليات الإدخال في بيروت التقى حسن ريدان بالزعيم، فأقسم يمين الانتماء على يده. كان حسن ريدان قد تخرّج من مدرسة سوق الغرب وأصبح معلماً في مدرسة الإنكليز في عين عنوب. ومن عين عنوب انتقل الامتداد الحزبي إلى بشامون فوقع اختيار حسن ريدان على خطار أبو إبراهيم فأقسم يمين الانتماء هو وعارف حسان وفؤاد الحلبي. ثم اتسعت الرقعة فشملت نسيم أبو ضاهر، إميل أبو ضاهر وفؤاد عازار.
وفي الصفحة 340 من الجزء الأول، يقول الأمين جريج أنه بفضل النشاط الحزبي الذي راح يبديه الرفيقان خطار أبو إبراهيم وحسن ريدان، أصبحت بشامون مديرية، مديرها الرفيق خطار وناموسها الرفيق عجاج أبو شكر، كذلك عين عنوب وقد تولى مسؤولية المدير الرفيق سليمان سعد.
*
ليس في ملفات الحزب ما يشير إلى المسؤوليات التي تولاها الرفيق حسن ريدان باستثناء ما أورده الأمين جريج في الجزء الرابع من «من الجعبة» عن تولي الرفيق ريدان لمسؤولية منفذ عام الساحل الجنوبي الذي كان يتولاها الرفيق (الأمين لاحقاً) محمد أمين أبو حسن، وما كانت أفادتني به عقيلته الفاضلة هند عن توليه لمسؤولية عميد ومنفذ عام دمشق.
بعد مغادرته إلى أفريقيا حيث كانت له أعمال ناجحة في سيراليون، وفي ليبيريا، تولى الرفيق ريدان مسؤوليات محلية في كل منهما، منها منفذ عام ومندوب مركزي.
كان شاعراً وأديباً، وتمتع بمزايا المناقب القومية الاجتماعية، وبصدق الانتماء، وكان محط احترام وتقدير في الأوساط العامة التي احتك بها كما بالنسبة لرفقائه.
نشر الأمين حسن قصائده ومقالاته في صحف الحزب، وعرفته المنابر الحزبية والمناسبات خطيباً وشاعراً. عام 1945 أصدر كتابه «كهفان» (كهف سقراط وكهف زينون) عن دار المجاني للطباعة والنشر في بيروت. ثم أعاد طبعه مرة ثانية عام 1997، وقد توّجه بكلمة الشكر التالية: «يعود الفضل في إعادة نشر هذا الكتاب إلى الأمينين نواف حردان وعادل شجاع وإلى رفيقة حياتي هند»، أما المقدمة فكتبها الأمين نواف حردان.
في الطبعة هذه، نشر الأمين حسن ملحقاً تضمن التالي:
ولادتي الثانية وفيها يشرح كيف انتمى إلى الحزب.
قصيدة «نداء الأول من آذار».
في مقالته، يقول الأمين حسن ريدان:
… بعد فترة وجيزة جاءني قائلاً إن موعدي مع القائد قد حان. ثم أوعز لي بأن ألحق به خطوة خطوة، بحذر شديد… ثم سار أمامي في ظلام تلك الليلة، متلفّتاً بين الفينة والفينة يميناً ويساراً إلى أن وقفنا أمام باب قبو قديم في جوار الجامعة الأميركية (تذكرت أنه بيت رفيق لي في الدراسة الثانوية في عين عنوب هو فكتور أسعد الجريديني وما أن وطئت قدماي ذلك القبو الخافت النور حتى شعرت برهبة مؤنسة تلفّ كياني. في ذلك الصمت المهيب الأبكم تعرّفت إلى «عينيه» (يقصد عيني ونظرات سعاده) الناطقتين بما في قلبه من آمال. عينان تطلان من حدقتين صارمتين امتزجت فيهما روعة الجمال بهيبة القسوة.
كان جالساً إلى طاولة قديمة صغيرة متواضعة بقامته المنتصبة كأول حروف الهجاء وإلى جانبيه شابان يغمرهما الجلال… دخلنا فأشار لنا بالجلوس، أما أنا فأخذت عيناي تحدّقان بشغف وذهول في قسمات ذلك الوجه القاسية والعينين الحادتّي الجمال والعقدة الصارمة التي تربط الحاجبين بهالة من العزيمة والحزم.
أعطى الإيعاز فوقف الجميع بأيد منتصبة زاوية قائمة، ثم أعلن افتتاح تلك الجلسة الصغيرة، رسمياً. بعد ذلك أعطى الإيعاز بالجلوس، فجلس الجميع. ألقى عليّ نظرة العارف وقال: «إنني أذكر وجهك، لقد التقينا في مدرسة سوق الغرب للحتيين» (أصحابها من آل الحتي).
قلت: «نعم»
قـال: «والآن بما أنّ طلبك قد قبل، انتبه إليّ بدقّة وافهم كلامي عبارة عبارة»…
ثم أخذ يقرأ لي المبادئ فقرة فقرة شارحاً إياها بإيجاز وإيقاع جدّي عذب… حدّق بي بعدها وقال: «لقد سمعت المبادئ فهل تؤمن بحقيقتها؟»
قلت: «نعم».
قال: «وهل أنت مستعدّ لأخذها شعاراً لك ولأهل بيتك؟»
قلت: «نعم».
حدّقت عندها بصفاء عينيه العميق… وكبارق خاطف تجلّت لي صورة حبّي السابق لشراسة الجمال في عيني النسر مقترنةً بجمال الشراسة في عينيه. كلّ ذلك مرّ بذهني في أقلّ من لحظة خاطفة عدت بعدها أتابع ما يقرأ عليّ بتؤدة وبنبرات راحت تحرّك أعماقي الهاجعة برفقٍ آسر.
وكان بين كلّ جملة وجملة يرمقني بنظرة خاطفة متفحّصة.
في ذلك الجو الرهيب شعرت وكأنني أخلع عني قميصي القديم البالي لألبس بدلاً منه قميصاً جديداً لحياة جديدة تتعدّى فسحة العيش الضيّق المحدود إلى رحاب الحياة الهادفة.
بعد انتهائه من قراءة المبادئ وشرحها سألني إذا كنت قد قرأت قسَم العضوية بدقّة… فقلت: «نعم».
قال: «إذاً أصغ إليّ جيداً، سوف أقرأ القسم وأنت ستردّده من بعدي كلمة كلمة وبصوت عال وواضح بادئاً بقولك: أنا حسن هاني ريدان «أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أن أنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي بكلّ إخلاص وكل عزيمة صادقة» إلخ…
بعد الانتهاء من مراسم وأداء القسم، تقدّم إليّ بعزّة لا أنساها وهزّ يدي بحرارة وحبّ ثم قال: «أنت الآن رفيق سوري قوميّ». ثم تقدّم بعده نحوي الرفقاء الحاضرون وهم مأمون أياس، نعمة ثابت، وحسن قائدبيه مصافحين مهنّئين. أما هو فأخذ يكتب بطاقة انتسابي بذلك الخط الفريد ببساطته والمتميّز بتناسقه وانحناءاته اللطيفة، ثم سلّمني تلك الهوية الغالية، فشعرت عندها أنّ ولادتي الجديدة قد تمّت في تلك اللحظة المقدسة، وأنّ العقيدة تضمّني إلى صدرها أماً حنوناً، وإنه هو بذاته – باعث النهضة – يأخذني على ذراعيه أباً عطوفاً يعرف ماذا يريد من بنيه. هكذا اكتملت ولادة اللحم والدم بولادة الروح. عندها هتفت في أعماق كياني مردّداً:
ما أروع أن يشاهد المولود الجديد مراحل ولادته بنفسه!
ثم استهلّيت صلاتي الجديدة، بإيماني الجديد، هاتفاً من الأعماق: لتحي سورية».
*
ـ يفيد الرفيق خطار علي سلمان من بلدة الرملية أنه تعرّف على الحزب بواسطة ابن عمته الأمين حسن ريدان. بعد أن اقتنع، توجه إلى بيت الأمين خطار أبو إبراهيم في بشامون. كان ذلك عام 1936.
ـ جاء في العدد 170 تاريخ 26/10/1946 من جريدة «صدى النهضة»:
“غادرنا أمس إلى ليبيريا بطريق الجو الرفيق الشاعر حسن ريدان، فنحن نتمنى له سفراً سعيداً ولعمله في المهجر ازدهاراً ورقياً”.
بطاقة هوية
حسن هاني ريدان
الأم: آمنة سلمان
ولد في “عين عنوب” عام 1916
اقترن من السيدة هند أحمد صعب ورزق منها:
هاني، وسيم وكريم
منح الرفيق حسن رتبة الأمانة في أواسط العام 1956.
قالوا فيه:
الأمين عادل شجاع الذي عرف الأمين حسن منذ مرحلة الطفولة، كانت له هذه الشهادة الصادقة بالأمين حسن ريدان:
كلنا يشغل على مسرح الحياة مساحة في المكان والزمان ما دام على قيد الحياة، لكن الذين يستمرون في شغل مساحات في الزمان بعد وفاتهم فقلائل. الأمين حسن ريدان هو واحد من هؤلاء القلائل الذين ما زالوا يشغلون مساحة في الزمن بعد مماتهم.
تعرّفت إليه وانا بعد في مرحلة الطفولة، على يده تلقيت دروسي الأولى في المدرسة الإنكليكانية وبعدها في مدرسة منهل الناشئة في عين عنوب، كان هو في ريعان الشباب لامع الذكاء فياض الحيوية أنيقاً ومحباً وفي كل ذلك كان مثلي الأعلى. على يده انتميت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي سنة 1945 وعلى يده تتلمذت في مدرسة النهضة السورية القومية الاجتماعية، اما هو فقد انتمى إلى الحزب على يد الزعيم نفسه قبل ذلك بحوالي عشرة سنوات، قصة انتمائه مروية بأسلوب شيق وجميل في كتابه (كهفان) تحت موضوع “ ولادتي الجديدة”.
كان الأمين حسن الشخص الثاني من شباب عين عنوب الذين انتموا إلى الحزب وكان ذلك قبل انكشاف أمر الحزب لدى سلطة الانتداب الفرنسي سنة 1935، أما الشخص الأول فكان قريبه الصيدلي حسن قائدبيه، ولقد كان للأمين حسن الفضل الأول في انتماء عدد من شباب عين عنوب إلى الحزب منهم الكاتب المعروف الرفيق يوسف سلامة الذي عاش طفولته وبعضاً من سني شبابه في عين عنوب برعاية والدته وأخواله منير وفريد وبهيج وبديع أبو فاضل، ومنهم الدكتور سامي قائدبيه والدكتور رياض خليفه وغيرهم.
لقد حمل الأمين حسن في عقله وقلبه مبادئ الحزب ومفاهيم النهضة وتابع التبشير بها حيثما حط به الرحال إن مدرساً في الشام أو في العراق أو تاجراً في جمهورية ليبيريا (غرب أفريقيا) حيث أسس منفذية ليبيريا التي كانت واحدة من أنشط منفذيات عبر الحدود وهي لا تزال حتى اليوم ناشطة نسبياً برغم الأوضاع الأمنية والاقتصادية التي تعرضت لها تلك البلاد في أواخر القرن الماضي.
*
شهاده أخرى للرفيق مكرم سعد(10) وردت ضمن كلمة نشرها في مجلة “البناء – صباح الخير” في 10/1/1998 بعنوان: “تحيتي الأخيرة”، نورد بعض ما جاء فيها:
إذا بدأت الكتابة، عما أعرفه عن حسن ريدان وكيف تعرّف وانتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في الثلاثينات وكيف تغيّر الوجه السياسي لمنطقة الغرب قضاء عاليه نتيجة نشاطه ومثاليته ثم كيف أسس الحزب في ليبيريا من عضو او إثنين ووصل العدد إلى ما يقارب المائتي عضو، وأصبحت المنفذية المثالية الأولى في عبر الحدود وذلك باعتراف القيادات المخلصة والمنصفة.
أقول إذا بدأت بسرد صفحات هذه المسيرة الفريدة لما اتسعت صفحات المجلة لذلك، لذلك سأكتفي بالقليل القليل من إضاءات هذا النجم الذي لو قدر وكان موجوداً عندما كان الحزب بحاجة لقيادات تاريخية لوفر علينا بعضاً من العثرات والنكسات.
لم أعرف واحداً ما أحب حسن ريدان ولم يبادله الأمين هذه المحبة.
بالمحبة كان ينفذ إلى القلوب والنفوس فيملؤها معارفاً وقيماً وأخلاقاً.
أجل لو سألني أحدهم أن أضيف كلمة على رسم حسن ريدان ورتبة الأمانة، لقلت أمين الأخلاق حسن ريدان.
فالأخلاق والقيم كانت صفات تلقائية عنده ورثها عن السلف الكريم ومزجها مع المدرحية القومية الاجتماعية فوصلتنا تلك الصياغة الفريدة النادرة التي إمتاز بها حسن ريدان واكتسبنا ما استطعنا منها نحن من عاشرنا وعاشرناه وأحبنا وأحببناه.
*
ونقلا عن كتاب “في مواكب النسور”
“ كانت زوجتي في زيارة لأهلها في لندن، الأمر الذي دعاني للتوقف يوماً في مقهى بفندق لآل الجوهري في منروفيا، قبل ذهابي الى البيت.
لحينه لم يكن لي أيّ علاقة اجتماعية تجمعني بأيّ من المسؤولين الحزبيين، بل كانت علاقتنا مقتصرة على التعاطي الحزبي الرسمي. وتأثري بهم كان تأثراً حزبياً عقائدياً فكرياً أخلاقياً ووجدانياً.
التقيت في المقهى بثلاثة شبّان أميركيين، كنا نتجاذب أطراف الحديث عندما سألني احدهم: من أين انت؟
قلت: أنا من لبنان.
فصرخ أخر: آه أنت من بلد جبران خليل جبران اذن؟ قلت وبكلّ فخر واعتزاز: نعم. ثم راح كلّ منا يدلو بدلوه عن أدب وفلسفة وأسلوب جبران. في عز النقاش دخل المقهى الأمين حسن ريدان، كنت أعرفه، إذ شاهدته مرة او مرتين من ذي قبل، فالأمين حسن كان زائراً في ليبيريا وليس مقيماً. لكن مميّزاته كانت تترك أثراً كبيراً في كلّ من يلتقيه، يصعب معها نسيانه. أناقته وهو في منتصف الستينات من العمر، ثقافته الواسعة تفرض الإصغاء إليه وتشدّك بغضّ النظر عن ميولك السياسية او الثقافية. ثم تاريخه الحزبي الذي يشهد على حنكته وقدراته القيادية.
جلس يصغي باهتمام شديد الى أربعة أجانب يتحدثون عن جبران، فهو لا يعرفني ولا يبدو اني لبناني من حيث الشكل. طبعاً كنت أودّ أن أقدّم نفسي إليه معرّفاً، لكني آثرت ان افعل ذلك بعد الحوار، او بعد ان يخلو لنا المجلس. بالتأكيد أخذ دوره في الحوار، وكيف لا يفعل ذلك وهو أمين في الحزب ـ وبكل ما يعنيه لنا جبران من الناحية الفكرية والوطنية والقومية ـ وأستاذ لغة إنكليزية في مدارس دمشق وبيروت.
واخيراً، غادر الأميركيون بعد ان شكرونا على الحوار الجميل والمعلومات الأجمل، وبقينا وحدنا. نهضت من مكاني واقتربت منه لأعرّف بنفسي، لكنه عاجلني بحوار آخر، فارتبكت وأكملت التحدث معه باللغة الإنكليزية. ثم سألني: من أين أنت؟ لكنه علّق قبل ان أجيب: لكنتك الإنكليزية جدا محيّرة، هل أنت من إحدى الدول الاسكندنافية؟
قلت: أنا الرفيق مصطفى الشيخ علي، تابع لمديرية منروفيا الأولى في منفذية ليبيريا العامة.
قال: اذن انت تعرف من أنا منذ دخولي هذا المكان!.
قلت: طبعاً.
قال: وبالرغم ذلك لم تعرّف عن نفسك.
قلت: أرجو ان تعذرني على ذلك، أردت الاستفادة من وجودك بالحوار الذي كان قائماً مع الأميركيين، واعتقدت بأنّ تعارفنا كان يمكن أن يفسد الحوار العفوي معهم.
طلب ان يلتقيني بحضور المنفذ العام الرفيق فؤاد صعب في صباح اليوم التالي. ليؤنبني ويشيد بمعلوماتي وثقافتي العامة.
كنا نلتقي كلّ يوم تقريباً خلال فترة وجوده في ليبيريا، ونتحدث بكافة المواضيع الثقافية… فكان أول المشجعين لي للمثابرة على تثقيف نفسي.
وذات مرة روى لي هذه الحادثة:
“كنت وزوجتي في زيارة الى لبنان لقضاء عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة (1961 – 1962). وحصلت حينها المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الحزب. وبدأت الاعتقالات بالجملة والمفرق. جلست في البيت أنتظر حضورهم لاعتقالي، بالرغم من قناعتي ببراءتي. فأنا مقيم في سيراليون منذ سنوات، ووجودي في لبنان كان محض صدفة في هذا الوقت بالذات. لكن التعسّف كان سيد الموقف، عوضاً عن كوني أمينا في الحزب ومعروفاً بانتمائي والتزامي. لكن حقيقة الأمر تبقى بأني لم أكن مشاركاً في الانقلاب او حتى على علم به.
انتظرت بضعة أيام في المنزل، فلم يحضر أحد لاعتقالي. فازدادت قناعتي يوماً بعد يوم بأنهم لا يبحثون عني. بناءً عليه حجزت مقعدين على أول طائرة الى سيراليون.
بقي الافتراض الأقوى ان أعتقل في المطار لدى مرورنا بالأمن العام. لكن شيئاً من هذا لم يحصل، فصعدنا الطائرة وتنفسنا الصعداء.
لسبب ما تأخر الإقلاع، وهذا التأخير كان مصدر إزعاج وتساؤل جميع الركاب، فعاد إلينا بعض القلق.
فجأة، رأينا بعض رجال قوى الأمن في الطائرة، وكانوا يتقدّمون بإتجاهنا.. الى ان وصلوا إلينا، فسألني أحدهم ان كنت الأستاذ حسن ريدان؟ قلت: “نعم”. قال: “تفضل معنا”.
أخذوني مباشرة الى المدينة الرياضية، حيث كانوا يجمعون المعتقلين هناك بعد أن امتلأت بهم السجون. تبيّن لاحقاً انهم اعتقلوا شخصاً يُدعى حسن زيدان، يعمل في إحدى محطات البنزين. هذا كان سبب تأخرهم في اعتقالي. أحضروا معتقلاً شاباً بهيّ الطلعة، وسيم الوجه بالرغم انه تعرّض للضرب، فأثار بعض اللكمات كانت واضحة على وجهه إذ تركت بعض الجروح.
أثارني بكاؤه، فاقتربت منه ورحت أطيّب خاطره وارفع من معنوياته، لكنه ازداد بكاءً وهو يردّد: “انا لست حزبياً، انا لست منكم” فأجبته بأنّ الكثير من المعتقلين ليسوا حزبيين، فلا بدّ ان تظهر الحقيقة وتخرج سالماً بإذن الله.
هدأ روعه، وعاد إليه بعض الهدوء. في اليوم التالي نادوا عليه، وخرج برفقة رجلين من الأمن. لكنهم أعادوه بعد ان أبرّحوه ضرباً، وعادت جروحه تنزف من جديد، وعدت أنا أطيّب خاطره وأرفع معنوياته. وعاد يكرر “أنا لست حزبياً، أنا لست حزبياً” وبعد ان هدأ بعض الشيء، راح يخبرني انه في كلّ مرة يطلبون إليه الاعتراف بانتمائه للحزب، فينكر التهمة، فيشبعونه ضرباً وهكذا دواليك.
وفي اليوم الذي تلاه، نادوا عليه مجدّداً واقتادوه الى التحقيق، فحملت همّه ورحت أهيّئ نفسي للتخفيف عنه. لكنه عاد وهو يبتسم، فاقتربت منه وقلت له: يسعدني انك تبتسم ماذا حصل؟ أجاب: “مثل العادة ونفس التحقيق، لكني اعترفت بانتمائي للحزب قبل ان يبدأوا بالضرب، فوقعت على اعترافي ورجعت”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى