مَن بنى الإمبراطورية ومَن خان العرب أم الأتراك…؟
د. معن الجربا
كنت وما زلت من أكثر المدافعين عن الوحدة بين القوميات في عالمنا الإسلامي، رغم اطّلاعي على تفاصيل التاريخ لبعض هذه القوميات في تاريخ امبراطوريتنا الإسلامية، هذه التفاصيل التي لا تخلو في بعض الأحيان من فظائع تاريخية مؤلمة جداً، ولكن المصلحة العامة كانت تستوجب منا التغاضي عن هذه الفظائع وهذه الحوادث.
فأنا من كتب مقالاً بعنوان (المثلت الذهبي العرب والفرس والترك)، وقلت إنّ أيّ إمبراطورية إسلامية في تاريخنا لم تنشأ إلا بتحالف اثنين على الأقلّ من هذه القوميات الإسلامية الثلاث، وذكرت في ذلك المقال بعض تفاصيل تلك الفكرة وتلك الملاحظة التاريخية، ولكن لأنّ موضوع الحدث اليوم وموضوع المقال عن العنصرية التركية ضدّ العرب خصوصاً، فسأركز على التاريخ العربي دون إغفال دور جميع القوميات الأخرى التي ساهمت مع العرب في بناء الامبراطورية الإسلامية مثل القومية الفارسية.
لقد لاحظنا جميعاً في الفترة الأخيرة ازدياد عنصرية الأتراك ضدّ جميع القوميات الإسلامية الأخرى ولكن ضدّ العرب بشكل خاص، وبشكل صادم لهذه الشعوب العربية، هذه الشعوب التي فرحت بشكل عفوي وفطري بعودة تركيا في السنوات الأخيرة القليلة عبر خطابها الإعلامي والسياسي إلى الحضن العربي والإسلامي مرة أخرى، بعد ان كانت تلهث خلف أوروبا والاتحاد الأوروبي دون ايّ اكتراث من جانب الأخير، بل نستطيع القول دون أيّ احترام وبكلّ اشمئزاز واحتقار من جانب الأوروبيين للأتراك.
وهنا سنحاول الإجابة على التساؤلات الموجودة في عنوان هذا المقال، وسنحاول وضع النقاط على الحروف الرئيسية دون الدخول في التفاصيل العميقة لأنّ المقام لا يتسع لمثل هذه التفاصيل.. فهذه المحاولة هي من باب حرصنا على الوحدة العربية والإسلامية، لأنّ وضع النقاط على الحروف سيزيل الإشكاليات الفكرية العالقة في أذهان الأتراك، ويساهم في إزالة أفكارهم السوداوية اتجاه العرب واتجاه القوميات الإسلامية الأخرى.. فهذه محاولة لإعادة ترتيب العلاقات بين العرب والأتراك على أساس سليم، ولن يكون الأساس سليماً إلا إذا أجبنا على المغالطات التاريخية التي يعيشها الأتراك والتي سبّبت لهم عقدة العربي، سيكون حديثنا هنا بمثابة عملية جراحية مؤلمة بعض الشيء ولكنها ستحقق المصلحة العامة في نهاية المطاف.
سنبدأ المقال بسؤال بسيط ألا وهو “هل يعلم الأتراك من الذي فتح بلاد الأناضول التي استوطنها أجدادهم بعد ذلك”؟
الجواب “لقد سمحت الحضارة العربية للشعب التركي بالاستيطان في منطقة الأناضول بعد ان جاؤوا من آسيا الوسطى الى حاضرة الخلافة العربية الإسلامية، فقد كان الخليفة العربي في بغداد يستخدمهم عمّالاً وحرّاساً ووزراء وغير ذلك، وسمح لهم بالاستيطان في مناطق الأناضول وغيرها من البلاد التي فتحتها العرب، وهذا كله أعطى الفرصه للأتراك الذين حضروا من آسيا الوسطى كقبائل بدائية إلى التحضّر والنهل من ينابيع العلم والثقافة وعلوم السياسة وإدارة الإمبراطوريات، وذلك بسبب اختلاطهم بحاضرة الخلافة العربية الإسلامية في بغداد والتي كانت تشعّ بالعلم والمعرفة كأكبر إمبراطورية في العالم، وذلك بسبب مبادئ التسامح والألفة التي طبقتها الحضارة العربية مما سمح بتجمع أكبر قدر من علماء القوميات الإسلامية الأخرى من بلاد فارس والهند والسند والصين في بغداد، ومساهمتهم جميعاً في بناء الحضارة والامبراطورية العربية الإسلامية.
تقول المصادر التاريخية إنّ الفتوحات العربية نحو بلاد الأناضول وانتشار الإسلام بين الروم والأرمن والسريان والأكراد في تلك المنطقة قد بدأ قبل قدوم السلاجقة من آسيا الوسطى إلى الأناضول بأربعمائة عام.. فقد ذكر المؤرّخ أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري أنّ الصحابي سعد بن عمير هو من نظم أول حملة نحو الأناضول، وأنّ العرب قاموا بفتح منطقة أنطاكيّة وقاموا بإنشاء حي للمسلمين فيها، كما ذكر المؤرّخ الإسلامي ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) أنّ أول حملة للعرب نحو الأناضول كانت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وأنه تمّ فتح مدن ماردين وأورفه وجزره وديار بكر، وأنّ بعض سكان هذه المناطق اعتنقوا الدين الإسلامي في تلك الفترة.. كما ذكرت المؤرّخة الفرنسية هيلينا أهرويلر في كتابها (آسيا الصغرى والغزوات العربية) أنّ الغزوات العربية نحو الأناضول ازدادت في عهد الخليفة عثمان بن عفان، كما ذكرت أنّ العرب وصلوا إلى قيصري وشوروم، وأنّ المنطقة شهدت حركة تحوّل إلى الإسلام بشكل سريع، ومن الأدلة التي استندت إليها أهرويلر في ما تقول ما ورد في الكرونيكات التاريخية البيزنطية عن مساعدة القرويين المسلمين في الأناضول للمقاتلين العرب إبان حصارهم لإسطنبول.. لذلك فوجود الأتراك في الأناضول بعد مجيئهم من آسيا الوسطى كان بسبب ما حققته الحضارة العربية من فتوحات وتأسيس في تلك المنطقة.
الحقيقة أن الشعب التركي يعيش حالة تضخم للذات والـ “أنا”، نتيجة لما يلقّنه الأجداد للأبناء من مغالطات تاريخية عارية من الصحة، فهم على سبيل المثال يعتقدون أنهم هم الذين بنوا الإمبراطورية الإسلامية وهم أصحاب هذه الإمبراطورية، وهم أيضاً يعتقدون أنّ العرب هم الذين خانوا وهم الذين تخاذلوا ضدّ الأتراك.
لذلك سنجيب عن سؤال: من الذي بنى الإمبراطورية التي عاش الأتراك في ظلها قروناً عديدة ومديدة بسلام وكرامة بعد ان جاؤوا من آسيا الوسطى كقبائل بدائية في ذلك الوقت؟
لا شك انّ العرب هم الذين بنوا هذه الإمبراطورية وليس الأتراك، لقد بنى العرب الأوائل هذه الإمبراطورية بسرعة ووقت قياسيين أذهل جميع المؤرخين التاريخيين، ففي غضون ثلاثة عقود فقط من بعثة النبي العربي، بنى العرب إمبراطورية امتدّت من الصين شرقاً الى أوروبا غرباً، وهذه الامبراطورية لم تمتدّ بسرعة قياسية فحسب، بل استمرت كقوة أولى في العالم لمدة تزيد على ألف سنة انتشرت خلالها الحضارة وانتشر العلم في كلّ مكان على وجه المعمورة، وهذا ما أذهل المؤرخين حيث أن الإمبراطورية العربية الإسلامية لم تتسم بالقوة فقط، ولكنها كانت ذات طابع علمي حضاري ثقافي أضاء شعاعه على باقي الأمم واستفادت منه البشرية إلى يومنا هذا.
هذه الإمبراطورية هي التي سلمها العرب للأتراك بعد قرون طويلة من الازدهار والقوة (ولكن كحال اي إمبراطورية بشرية عبر التاريخ فإنها ستصل لمرحلة الشيخوخة بعد الفتوّة والشباب) وتحتاج الى تجديد الدماء، فقد سلم العرب هذه الامبراطورية الى دماء جديدة، هذه الدماء ساهم العرب في تكوينها وتعليمها وبنائها، هذه الدماء كانت الدماء التركية الشابة التي كانت تعيش وتتعلم في ظل الإمبراطورية العربية الإسلامية.
لقد سلّم العرب مفاتيح الإمبراطورية التي بنوها إلى الأتراك بطريقة سلمية وبصورة لا تخلو من الإيثار والتضحية أثارت ذهول علماء الأخلاق عبر التاريخ، فالكلّ يعلم أنّ الرأي الفقهي السائد في ذلك الوقت كان قول جمهور الفقهاء بأنّ الخلافة في قريش، ولا خلافة إلا في قريش، لذلك فلولا أنّ العرب سلموا مفاتيح الخلافة للأتراك لما دانت الشعوب العربية والإسلامية للترك بحال من الأحوال… لقد فعل العرب ذلك شعوراً منهم بالمسؤولية تجاه الدين الذي اختارهم الله سبحانه وتعالى لنشره والحفاظ عليه دوناً عن بقيّة الأمم، وذلك عندما شعر العرب وبعد قرون طويلة من القوة والإزدهار أنهم لم يعودوا قادرين على حماية هذا الدين.
فقد تنازل الخليفة العربي العباسي آنذاك للأتراك عن الخلافة، كما أرسل أمير مكة والحجاز الشريف محمد أبو نمي مفاتيح الكعبة إليهم، في الوقت الذي كان العرب يستطيعون فيه التحالف مع الجيوش الأوروبية ضدّ الإمارات التركية الناشئة في الأناضول آنذاك، وهذا ما كان يتمناه الأوروبيون ويتوقون إليه بشدّة.
بينما نجد بالصورة المقابلة على سبيل المثال لا الحصر، أنّ الأتراك لم يفعلوا ما فعله العرب من أجل حماية الدين عندما ضعفت دولتهم وسُمّيت (بالرجل المريض) في آخر أيامها، بل نجد أنهم تحالفوا مع الأوروبييين ضدّ الجيوش العربية المصرية والشامية والعراقية في أيام محمد علي باشا، والتي كانت تشكل قوة فتيّة وجبّارة قادرة على إعادة قيامة ونهضة وقوة الإمبراطورية الإسلامية من جديد بعد ان وصلت إلى مرحلة الشيخوخة. فهنا نجد أنّ الأتراك تحالفوا مع الأوروبيين ضدّ أمّتهم الإسلامية من أجل بقائهم في السلطة فقط، وهذا ما لم يفعله العرب عندما ضعفت دولتهم كما ذكرنا أعلاه.
أيضاً، ففي أواخر سنوات حكم سلاطين الدولة التركية، نشأت الحركات القومية التركية العنصرية مثل حركة الإتحاد والترقّي وحركة تركيا الفتاة وما إلى ذلك، هذه الحركات القومية العنصرية التركية هي التي حكمت العالم الإسلامي في أواخر أيام السلاطين الاتراك، وكانت مبهورة بالغرب وقرّرت خلع عباءة الإسلام.
هذه الحركات القومية التركية العنصرية المعادية للإسلام ومن أجل تنفيذ مخططها العنصري دخلت الحرب العالمية الأولى بالتحالف مع ألمانيا، ولو انتصرت الدولة التركية التي كانت تحكمها الحركات القومية التركية العنصرية في الحرب العالمية الأولى، لفرضت الأحكام المعادية للإسلام في كلّ أقطار العالم الإسلامي وليس في تركيا فقط كما فعل كمال أتاتورك، ولفرضت كلّ القوانين القومية العنصرية التركية ضدّ باقي القوميات في العالم الإسلامي، وهذا ما برّر للعرب التحالف مع الإنجليز ضدّ تحالف القومية التركية العنصرية الحاكمة مع ألمانيا، لكي يتجنّبوا موجة العنصرية التركية ضدّ الإسلام وضدّ القوميات الإسلامية الأخرى وخصوصا العرب.
لذلك فالإجابة على سؤال من الذي خان، العرب أم الأتراك؟ بكلّ جلاء ووضوح الذي خان هم الأتراك بانقلابهم على الإسلام وبانقلابهم العنصري على القوميات الإسلامية الأخرى من خلال الحركات الطورانية القومية التركية العنصرية ومن خلال تحالفهم مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى لتحقيق مشروعهم العنصري المعادي للإسلام والعرب، وهذا ما دفع العرب للقيام بردّ فعل بالتحالف مع الإنجليز لكبح تغوّل القومية التركية العنصرية تلك.. فلا شرعية للأتراك بالنسبة للعرب والقوميات الإسلامية الأخرى إلا بقيامهم بواجبهم تجاه حماية الإسلام وتطبيق شريعته بالعدل والمساواة، وهذا أصلاً هو السبب الرئيسي الذي دفع العرب لتسليم مفاتيح الامبراطورية العربية الإسلامية كما ذكرنا سابقا للأتراك، وبتخلي الأتراك عن القيام بواجبهم الإسلامي سقطت شرعيتهم بالنسبة للعرب ولباقي قوميات العالم الإسلامي.
ومن باب آخر ومن المقارنات المهمة عليك أن تلاحظ، انه عندما أنشأ العرب الإمبراطورية العربية الإسلامية، فقد تعايشوا مع القوميات الأخرى، وسمحوا لها بمشاركتهم في إدارة الدولة، فقد كانت كلّ قومية تقريباً تشكل لها دولة شبة مستقلة في داخل الإمبراطورية العربية الإسلامية (مثل السلاجقة وغيرهم من القوميات الأخرى)، وقد انتشر العلم وانتشرت الحضارة والازدهار في كلّ بقعة يحكمونها، فلا تكاد تقرأ في التاريخ بضع صفحات عن إمبراطورية الحضارة العربية الإسلامية إلا وتجد فيها اسماً لعالم من بلاد فارس أو الهند أو السند أو بلاد ما وراء النهر أو القوميات الأخرى العديدة، ولا تكاد تقرأ بضع صفحات في تاريخ إمبراطورية الحضارة العربية الإسلامية إلا وتجد الإزدهار العلمي والثقافي والإقتصادي من شرق الإمبراطورية إلى غربها.. كلّ هذا لن تجده عندما حكم الأتراك العالم الإسلامي، فقد حصروا المناصب للقومية التركية فقط، واستُبعدت القوميات الأخرى، وانتشر الجهل والتخلف، ومنعوا آلات الطباعة وكلّ أدوات نشر العلم في العالم الإسلامي. ولا تكاد تسمع عن مدنية وحضارة إلا في اسطنبول وما حولها، أما باقي المناطق في العالم الإسلامي فكان يعمّها الجهل والظلام.
ولك ان تعرف وتتذكر انه عندما سلم العرب الإمبراطورية للإتراك، كانت أوروبا تعيش في عصر الظلمات وكان العالم العربي والإسلامي يتربع على قمة عرش الحضارة والعلوم على مستوى العالم، ولك أن تعرف أنه في فترة حكم الأتراك وصل العالم الإسلامي إلى الحضيض وارتقت أوروبا إلى قمة عرش العلوم والحضارة.
هذه حقائق تاريخية يجب وضع نقاطها على الحروف اذا أردنا إعادة ترميم العلاقة بين العرب والأتراك، فلا يمكن إعادة بناء علاقة قوية إلا على أساس قوي نظيف، وجرحٍ خالٍ من القيح والدمامل والكذب والإفتراءات.
فبشكل عام وعند المقارنة في أحداث التاريخ ستجد أنّ العرب هم أقلّ القوميات عنصرية ضدّ القوميات الأخرى كما ذكرنا أعلاه، ومن اللطيف أنّ العربي لا يجد غضاضة أن يسمّي ابنه باسم (تركي)، ولا يجد العربي غضاضة أن يسمّي ابنته باسم (هند)، ولا يجد العربي غضاضة أن يكون قائد جيشه العربي شخص كردي كصلاح الدين او ألباني كمحمد علي باشا، ولا يجد العربي غضاضة أن يقول سيدنا سلمان الفارسي… ذلك كله لأنهم أبناء تعاليم النبي العربي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ولأنهم أمّة مختارة من الله عزّ وجلّ لحمل رسالة هذا الدين العظيم.
نتمنى أن تصل هذه الحقائق إلى إخواننا الأتراك الذين نفتخر بهم كجزء مهمّ من أجزاء أمتنا، ونفتخر بالصالحين منهم والأبطال الذين ضحّوا من أجل أمّتنا الإسلامية…