أولى

لبنان في مرحلة انتقالية مديدة: نحو تسوية يرتضيها اللاعبون الخمسة الكبار؟

‭}‬ د. عصام نعمان*
ما زال لبنان يعاني أزمته المزمنة والمستعصية. أزمةُ لبنان لا تخصّ اللبنانيين وحدهم لا في أسبابها ولا في نتائجها ولا في محاولات تجاوزها. ذلك انّ الصراع في وطن الأرز يتناول الأرض والموارد والمصالح ويتداخل مع مصالح وموارد ونفوذ دول أخرى في الإقليم والعالم.
في الصراع على الأرض والموارد والمصالح، ثمة لاعبون خمسة كبار: الولايات المتحدة ومن ورائها “إسرائيل”؛ فرنسا ومن ورائها الإتحاد الأوروبي والفاتيكان؛ السعودية وحرصها على احتواء النواب السنّة في البرلمان اللبناني؛ إيران وهمّها عدم النيل من حليفها المقرّب حزب الله؛ منظومة السياسيين المستفيدين من نظام المحاصصة الطوائفي الممسوك بأيدي أمراء الطوائف، مسلمين ومسيحيين.
على الأرض ثمة صراع آخر محتدم بين حزب الله ومؤيديه من كلّ المشارب والمناطق من جهة، واميركا و”إسرائيل” وأصحاب المصالح المحليين والأجانب والمتعاملين والعملاء من جهةٍ اخرى.
الصراع الأول له ثلاثة عناوين بارزة: انتخاب رئيس جديد للجمهورية؛ إصلاحات جوهرية اقتصادية واجتماعية وإدارية مطلوبة من الرئيس القادم ومن القوى السياسية التي تؤيد انتخابه؛ والأسس المتوخاة للنظام السياسي الجديد الذي يمكن ان يخلف النظام الحالي المتهالك.
في هذا السياق، يحمّل حزبا الكتائب والقوات اللبنانية حزبَ الله، دونما أدلة ثبوتية، مسؤولية تردّي الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، ويعلنان عزمهما على منعه من انتخاب رئيسٍ للجمهورية يكون صديقاً له، ويكافحان لمنعه أيضاً من المشاركة في السلطة. في المقابل، يؤكد حزب الله انه عُرضة في الوقت الحاضر الى حملةٍ شرسة مكشوفة من الولايات المتحدة، كما من حلفائها المحليين، هدفها ليس إبعاده عن السلطة فحسب بل منعه أيضاً من ممارسة فعله المقاوم ضد “إسرائيل” على كامل الأراضي اللبنانية، لا سيما في جنوب لبنان المحاذي لأراضي شمال فلسطين المحتلّة.
موفدُ الرئيس الفرنسي، جان إيف لودريان، أمضى في لبنان اربعة أيام جال خلالها على معظم القيادات السياسية والدينية، وختم جولته بالتأكيد على ضرورة توصّل اللبنانيين أنفسهم الى أفكارٍ ومخارج جديدة لحلّ الأزمة المستفحلة، وملاحظاً انّ المشكلة ليست في أشخاص المرشحين لرئاسة الجمهورية وإنما في آليّة انتخابهم، وأنّ هناك من يريد الحوار على ان يليه عقد جلسةٍ بدورات متتالية لإنتخاب رئيس للجمهورية، وهناك من يريد إنتخاب رئيس الجمهورية قبل أيّ إجراءٍ آخر، وهنالك من يرفض كلّ شيء. وعليه، دعا لودريان الى الإتفاق على الآلية أولاً، ولا بأس من إبدال مصطلح الحوار الذي يتحفّظ بشأنه البعض بمصطلح التشاور بغية التوصّل الى توافق. وإزاء إخفاق لودريان في إقناع الأطراف المتصارعين بإعتماد صيغةٍ توافقية للخروج من المأزق، يبقى السؤال الخالد مطروحاً: ما العمل؟
في الصراع الثاني المحتدم بين حزب الله ومؤيديه بشتّى مشاربهم ومناطقهم، تبيّن أنّ ثمة حواراً مستتراً بين لبنان و”إسرائيل” يجري برعاية قوات الطوارئ الدولية – “يونيفيل” في الناقورة على الحدود بين الدولتين بشأن النقاط الـ 13 موضوع النزاع على طول الخط الأزرق كان لبنان قد تحفّظ بشأنها عندما جرى ترسيم الخط المذكور بعد حرب العام 2006 التي انتهت الى إنهزامٍ مهين لجيش العدو.
الواقع انّ الموفد الأميركي أموس هوكشتاين كان طرح موضوع “ترسيم” الحدود البرية بين الطرفين خلال زيارته الأخيرة للبنان، وقدّم مبرّراً لذلك مفاده ضرورة تكريس إستقرار أمني في المنطقة لضمان قبول شركات الحفر والتنقيب بالعمل في الرقع العشر blocks التي تحتوي مكامن الغاز والنفط على طول الساحل ما يمكّن لبنان من الحصول على عائدات وفيرة منها واستخدامها تالياً في متطلبات وإجراءات خروجه من أزمته الاقتصادية والاجتماعية.
الحقيقة أنّ اميركا لا يهمّها تعافي لبنان من أزمته المستفحلة بقدر اهتمامها بإرساء قواعد استقرار أمني على الحدود مع فلسطين المحتلة يساعد، في ظنّها، على عدم قيام حزب الله بتهديد منشآت “إسرائيل” النفطية والغازية البحرية كما فعل قبل سنة تقريباً وادّى الى تراجعها عن مطامعها الرامية الى قضم قسمٍ من الرقعة رقم 9 التي تحتوي بئر قانا، وأتاح لشركتي “توتال” الفرنسية و”إيني” الايطالية وشركة قطرية مجتمعين مباشرة الحفر لاستخراج الغاز والنفط لصالح لبنان. أكثر من ذلك: تحرص أميركا كما دول الاتحاد الأوروبي، بالدرجة الأولى، على تسريع أعمال التنقيب عن الغاز على طول الساحل اللبناني املاً في الحصول على كمياتٍ وافرة منه في المستقبل لتعويض انقطاع الغاز الروسي عنها عقب إندلاع الحرب في أوكرانيا.
في ضوء هذه الواقعات والتطورات، يتردّد في أوساط مسؤولين ومستشارين لدى اللاعبين الخمسة الكبار انّ الولايات المتحدة وفرنسا ناشطتان لصياغة تسويةٍ يرتضيها جميع الأطراف المعنيين قوامها الأسس الآتية:
أولاً: الضغط على القيادات السياسية والدينية في لبنان لحملها على التوافق على رئيس جامع، مستقل عن التكتلات السياسية الكبرى، ليكون جديراً بإنتخابه رئيساً للجمهورية بالسرعة الممكنة.
ثانياً: إحراز توافقٍ بين القيادات السياسية على إصلاحات أساسية أهمّها إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتأمين إعادة الودائع في البنوك الى أصحابها، واستعادة الأموال العامة المنهوبة، وتكريس استقلالية السلطة القضائية، على ان يلتزم الشخص المتفق على انتخابه رئيساً والقوى السياسية المؤيدة له بتنفيذ هذه الإصلاحات.
ثالثاً: تثبيت الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة لضمان الاستقرار الأمني بينهما بغية تسهيل أعمال الحفر والتنقيب عن الغاز والنفط في مكامنهما على طول الساحل اللبناني.
في هذا السياق، سيعود الموفد الفرنسي لودريان الى لبنان ليتابع مساعيه الحثيثة للتوفيق بين الأطراف السياسية المتصارعة، كما سيكثّف رئيس مجلس النواب نبيه بري مساعيه لعقد حوارٍ، او مشاورات، تحت قبة البرلمان تمهيداً لدعوة أعضائه الى جلسةٍ بدورات متتالية لغاية إنتخاب رئيس الجمهورية.
هل ينجح أهل الوفاق والوسطاء، لبنانيين وأجانب، في مساعيهم التوفيقية؟
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
*نائب ووزير سابق
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى