أولى

شتان بين الصبر الاستراتيجي والتبعية

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
لا تُلَاْمُ الشمسُ عندما تشرق ولا يراها من أصابهم عمى البصر أو البصيرة، ولا يغيّر الصراخ والتهويل وتعريض الأكتاف المحشوّة إسفنجاً صناعياً من حقيقة التبعية التي يعيشها أولئك، طالما أنّ ذاك الإسفنج الصناعي المنفوخ بهواء الذلة والانبطاح قابل للذوبان والتلاشي، وإذا أراد ملَّاكه حرقه بمن يحمله فذلك أهون عليهم من شربة ماء، وعندها لن يفيد أولئك كلّ ما ظنوه توهّماً أنه عوامل قوة ذاتية فإذا به مستورد، وقد دفع ثمنه بدماء الأبرياء أفراداً وشعوباً. وإذا كانت هناك بقية من عقل لدى من يسوقون أنفسهم أنهم الأبعد نظراً والأنفذ بصيرةً والأصوب حساباتٍ بقرون استشعار ترصد ما فوق الأكمة وما أمامها وخلفها… فعلى أولئك أن يزيلوا قبل فوات الأوان بعض طبقات الغشاوة عن أعينهم أولاً كي يفلح من طالتهم العدوى بالوقوف مع الذات ومحاولة التفكير بعيداً عن القناعات المسبقة التي حُقِنَتْ بها الأوردة بعلمٍ أو بجهلٍ أو بغفلة تخلط بين العلم والجهل. فالنتيجة واحدة، وكيلا يبقى الكلام عاماً ويقبل أكثر من تأويل سأكتفي ببعض الأمثلة والشواهد التي لا تقبل التشكيك من الأحدث إلى الأقدم، ومنها:
الإفراج عن الأسرى الإيرانيين 
ومليارات الدولارات
من اللافت للانتباه اهتمام وسائل الإعلام الأميركية بحضور فخامة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي للمشاركة في الاجتماع الثامن والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وما أدلى به من تصريحات ملؤها العزة والوطنية والاقتدار العصيّ على إرادة من حاولوا مصادرة الإرادة الكونية، ولم يكتفِ فخامة الرئيس رئيسي بتبيين حق إيران في كلّ ما تتخذه وتُصرّ عليه من مواقف تستند إلى القانون الدولي، وميثاق هيئة الأمم المتحدة، بل وضع النقاط على الحروف بدقة ووضوح وجرأة عرَّت العدوانية الأميركية على حقيقتها النتنة المتناقضة مع كلّ ما له علاقة بالقانون الدولي وقيم المجتمع الإنساني وأعرافه. والمقابلة التي أجرتها قناة «أن . بي. سي» الأميركية حبلى بمعالم العزة والاقتدار التي يرويها الإعلام الأميركي نفسه، ومنها:
ـ لا علاقة لواشنطن بكيفية صرف الأموال المفرج عنها، لأنّ «الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي مَن تقرّر كيف تنفق أموالها المفرج عنها» وعلى أميركا أن تتخذ إجراءات بناء الثقة وتوقف الحظر. وفي هذا الكلام عبر الإعلام الأميركي قطع للطريق على كلّ التخرّصات المخالفة لمن يستمتعون بالانبطاح أمام الأميركي والتهليل له والتسبيح بقدراته الإعجازية، متناسين البون الشاسع بين طرائق عمل المدرسة الهوليودية، وبين ما هو متبلور وقائم على أرض الواقع.
ـ إيران أوفت بكلّ التزاماتها باعتراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالتالي لماذا استمرار الحظر، ولماذا لم يفِ الأميركيون والأوروبيون بتعهّداتهم، ولا يختلف عاقلان على أنّ نشر هذا الكلام في الإعلام الأميركي، ومن الأراضي الأميركية تثبيتٌ لتناقض أولئك مع القانون الدوليٌ، واعتراف بأنهم ليسوا أهلاً للثقة. فمن يحنث بوعوده الكبرى لا يجد ضيراً في التنكر لتعهّدات أقلّ أهمية، وطالما أنّ الإدارة الأميركية نكثت بتعهداتها، وتنصّلت مما التزمت به فلا جدوى من العمل لبناء أيّ اتفاق جديد، وعلى واشنطن بدء العمل لبناء الثقة ووقف الحظر والتهديدات. فكلّ ما يتعلق بالعربدة الأميركية سياسة جوفاء لا يمكن أن توصل إلى أي نتيجة يبنى عليها.
ـ منطق الفوقية والتكبّر واحتلال الدول بالقوة لا يجلب أمناً ولا استقراراً، والشاهد الأقرب احتلال أميركا لكلّ من أفغانستان والعراق. وإذا كان الأميركيون والأوروبيون يتوهّمون أنّ إيران كبقية الدول فعليهم إعادة صياغة قناعاتهم، لأنّ «شجرة الثورة الإسلامية في ايران أصبحت عميقة الجذور وقوية ولها ثمار عديدة ولن تهتز بمثل هذه الرياح». فأين أدعياء الكرامة والسيادة وعزة الأوطان من مثل هذه المواقف المشرفة؟
ـ الكيان الصهيوني قاتل للأطفال، وبسبب عدوانيّته وإجرامه وممارساته المتناقضة مع كلّ ما له علاقة بإنسانية الإنسان يجد نفسه مرفوضاً من شعوب المنطقة، وبالتالي كلّ ما يتمّ الحديث عنه عن تطبيع هنا وتوسيع للتطبيع هناك ليس أكثر من هشيم تذروه رياح إرادة الشعوب الرافضة لكلّ أشكال التطبيع. وهنا أبيح لذاتي القراءة الاستنتاجية استناداً لهذه الصورة الواضحة، فطالما أنّ التطبيع وكلّ ما يرتبط به جهود عبثية وضائعة، وطالما أنّ فرض الإرادة الصهيونية على أبناء المنطقة منتفاة بالحرب وغيرها، فهذا يعني تبلور حقيقة ساطعة تقول: هذا الكيان السرطاني إلى زوال عاجلاً، أم آجلاً، والقرائن الدالة تشير إلى أنّ بلوغ هذا الهدف لم يعُد آجلاً، بل قد يكون أقرب مما قد يخطر على الذهن، فليستمتع من يتمسّحون بأعتاب قادة تل أبيب بهذا الفاصل الزمني العابر كما يحلو لهم، ومن حق أنصار نهج الكرامة وعشاق الحق والحقيقة أن يردّدوا قوله تعالى: «وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا». وكل ما ذكر غيض من فيض من المعاني والدلالات والعناوين المهمة التي تحملها مشاركة الرئيس الإيراني في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.
خيمة حزب الله 
والترسانة النووية الإسرائيلية
خيمتان من قماش يزيّنهما علم حزب الله تتحدّيان كلّ الصلف والغطرسة الصهيونية في عهد أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً ووحشية وعدوانية… خيمتان من قماش تبيّن أنه أقسى من الفولاذ، وأكثر قدرة على إثارة الرعب في قلوب عتاة الجنرالات الصهاينة وجلاوزة الإجرام الذي لا يعرف حدوداً.. فجأة يقف الذئب المفترس مكشراً عن أنيابه، ومقعياً على ذيله مكتفياً بالعواء الذي تختلط فيه معاني الخوف والتوسّل بدلالات الإجرام وشهية القتل المكبوحة بلجام العجز عن تحمّل التكلفة… خيمتان اثنتان واحدة فوق الثرى اللبناني المحرّر في الجنوب، وعلى بعد أمتار منها خيمة أخرى نُصبت فوق ثرى لبناني ما يزال يدنسه العدو المحتلّ الذي استجدى كلّ أعوانه وأنصاره وكلّ المتنفذين إقليمياً ودولياً لإزالة الخيمتين وهيهات لهم هيهات بلوغ ذلك… هذه بعض ثمار نهج المقاومة، فأرونا ثمار نهج الذلة والتبعية والتسليم بأن أميركا قدر لا يمكن مواجهته.
قمة جدة والحضور السوري الفاعل
بعد مرور أكثر من اثني عشر عاماً على أقذر حرب عرفتها البشرية يرفرف علم الجمهورية العربية السورية في قمّة جدة، ويطلّ السيد الرئيس بشار الأسد نجماً فريداً ساطعاً بأحزمة النور تستمدّ زيت توهّجها من معاني اليقين والثقة وبالنفس وبالنهج، فتتراقص الكلمات نشوى متسامية على كلّ الجراح، فلا معاتبة، ولا للنظر إلى الوراء، بل تطلع مشروع إلى مستقبل أفضل للجميع بالتعاون والتكامل والتنسيق بدلاً من القبول بما يحيكه أعداء الأمة من استهداف ممنهج تطال شروره الجميع. فأبناء المنطقة هم الأدرى بمصالحهم، وشعوب المنطقة هي الأقدر على حمايتها، ولا يُقلل من أهمية سورية وصمودها ممارسة المزيد من الضغوط على دول المنطقة لعرقلة العودة إلى دمشق، وإعادة إعمار ما خلفته الحرب من دمار وكوارث وويلات، والبدء بصفحة جديدة. فسورية كانت وتبقى قلب العروبة النابض وواسطة عقد المقاومة الصامدة المتجذرة القوية الواثقة بالقدرة مع الحلفاء والأصدقاء على اجتراح النصر رغم أنوف المعتدين…
عشرات المليارات من الدولارات أًنْفِقَتْ لتشظية سورية، بعد مصادرة مقعدها في جامعة الدول العربية، وإذ بالمقعد يعود لصاحبه، وصاحبه يزيّنه ويمنحه قيمة نوعية مضافة عنوانها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول إلا عند الطلب، فهل يعي «ثوار اللحظة العابرة» هذه الحقيقة؟ وهل يفهم أصحاب النزعة الانفصالية المحسوبين على واشنطن وتل أبيب وغيرهما أنّ الأميركي لا يعنيه وجود أولئك إذا هبّت رياح التغيير الحتميّ التي قد تهبّ في أي لحظة، وعندها سيصبح من عرفت ظهورهم السروج المتعدّدة أشبه بكرة تتقاذفها الأقدام من مرمى إلى آخر، وآنذاك تطمئن قلوب مؤمنة بصوابية نهج من تمسّك بمقوّمات الوفاء للوطن ولرموزه الذين طردوا المحتل الفرنسي، وقدّموا أغلى التضحيات وأطهر الأرواح كيلا يرتفع العلم الذي حاول ذاك المستعمر المطرود فرضه على السوريين، وكما أخفقت القوى الاستعمارية في السابق سيخفق اليوم المستعمرون الجدد، وفي كلّ مرة أخرى سيكون الفشل والإخفاق نصيبهم المنتظر. فسورية عمود النور الذي تكفلت السماء بحمايته، وأمنه، وهيهات لإرادة بعض العابرين في الأرض أن تحول دون إرادة السماء.
خاتمة
أعود إلى دلالات الحضور الفاعل لمشاركة فخامة الرئيس إبراهيم رئيسي وتأكيده في أثناء استقبال الرئيس الكرواتي أنّ «عصر فرض الآراء والإملاءات على الأمم قد انتهى»، وأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكّنت من تحويل العقوبات والضغوط إلى فرصة، وتحقيق تقدم كبير في مختلف المجالات، وخاصة في مجال التكنولوجيا.
على الجميع التذكّر وعدم النسيان بأنّ محور المقاومة عقد متواصل الحلقات، ويزيّن كلّ من يعتنق المقاومة نهجاً والكرامة عنواناً، والقدرة متوفرة بالإمكانيات المتاحة على إلزام أصحاب الرؤوس الحامية على إعادة الحسابات أكثر من مرة قبل التفكير بالإقدام على أي مقامرة أو مغامرة، فأي حماقة محتملة ستكون إطلاق نار على الرأس لا على القدمين فقط، وأي حسابات أخرى من شأنها أن تدفع أصحاب الأصوات الموتورة إلى الندم ولات ساعة مندم.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى