سورية… العدوان يتكرّر والجلاء والاستقلال يتجدّدان
د. سليم حربا
ها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هو الاستعمار العثماني والفرنسي والبريطاني، الذي زرع السرطان الصهيوني وكيانه «إسرائيل» في المنطقة، يعيد إنتاج نفسه ويغيّر مسمياته وأشكاله وأدواته وأسلحته وتجلياته ويحافظ على هدفه، ويحاول اجترار وتكرار خيباته من استعمار قديم إلى حديث إلى استعمار مركّب بالوكالة والأصالة والاستيطان، ليزرع استعماراً إرهابياً وهابياً استيطانياً في جسد أمتنا العربية.
وليس من باب الصدفة أن تكون دول الاستعمار القديم التي احتلت أرضنا وقتلت شعبنا وخرجت مدحورة من بلادنا، هي نفسها التي تعيد الانقضاض علينا، انطلاقاً من أنّ طبعها العدواني الاستعماري سيبقى غالباً على تطبعها الحضاري الإنساني. لقد عجزت إمبراطوريات العدوان والاستعمار القديم، بجبروتها وآلة قتلها في القرون الماضية، عن قهر إرادتنا ومنعنا من نيل حريتنا واستقلالنا في ظرف كانت هزيمة المستعمر وطرده ضرباً من ضروب المستحيل، فهُزم المستعمر وبقيت ميسلون ومعانيها وأمانيها وبقي الخالدون الذين صنعوا الجلاء والاستقلال نبراساً من البحر إلى النهر ومن اسكندرون إلى الجولان الذي سيبقى عربياً سوري الهوى والمنى والحجر والشجر والتراب واللسان والإنسان.
أولئك الصناديد الأوائل الذين قهروا المستحيل في الجبال والسهول، كصالح العلي، وابراهيم هنانو، ويوسف العظمة، وحسن الخرّاط، وسلطان باشا الأطرش، وعبد الرحمن الشهبندر، وفارس الخوري، وحافظ الأسد، وقوافل رفاقهم وحمّلونا أمانة ووديعة أخلصنا لها ودافعنا بها وعنها في كلّ المواقف والمواقع ليبقى الجلاء والاستقلال ناصعين ولتبقى البوصلة باتجاه فلسطين والأقصى وكنيسة المهد، ولتبقى سورية سيدة مستقلة بقرارها الوطني الغير قابل للتراجع أو النقض، ينبض بالعروبة، وليبقى الجلاء عزة الماضي وكرامة الحاضر وعنوان المستقبل في بلد يواجه أبناؤه معركة الدفاع عن العروبة والإسلام والمسيحية والإنسانية واستقلال وسيادة القرار الوطني والعربي في وجه المستعمر نفسه.
بعد عقود وقرون يتكرر المشهد ويتضح، فالعدوان واحد والهدف من العدوان واحد والمستهدف واحد والنتيجة ذاتها هزيمة للاستعمار ونصراً وزهواً لنا، وها هم السوريون جيشاً وشعباً وقيادةً أبناء وأحفاداً، أولئك الصناديد الأوائل الذين يتصدون للعثمانيين الجدد والفرنسيين الجدد والصهاينة الجدد والوهابيين الجدد وقوافل مرتزقتهم وإرهابييهم المتعدّدي الجنسيات، ويسطرون الملاحم، فتتكرر ميسلون في القصير وإدلب ودرعا والقنيطرة وغيرها، وقد تحول كلّ سوري إلى مقاتل يدافع عن هويته واستقلاله ووحدة أرضه وشعبه وسيادة قراره، ولسان حاله يقول: نحن للواجب نداء وللوطن فداء.
نعم نحن اليوم في سورية نؤكد أنه لا يوجد مستحيل في حبّ الوطن وافتدائه والانتصار له وبه على الاستعمار الاستيطاني الإرهابي الصهيوني الوهابي الجديد، ونحن اليوم كما عهدنا ووعدنا نملك قوة الحق وقوة الشعب وحق القوة في وجه الباطل الذي يندحر وينحسر وتتكرر خيباته ونكباته وتتحطم وتتصدع جبهاته الإرهابية مثل «داعش» و«النصرة»، وما بينهما، وتتلطخ جباه أنظمته بالعار والهزيمة أمام صمود وإعجاز شعبنا في اليمن والعراق وسورية ولبنان وفلسطين، ويرتسم فجر جديد ومستقبل جديد وجلاء جديد ونصر وسفر وفخر جديد، وكما كانت وستبقى سورية قلب العروبة واستقلالها وسيادتها نبراساً ألهمَ وساهم في استقلال الأمة العربية وصان وحفظ قضيتها المركزية فلسطين، فإنّ معركة الجلاء والاستقلال الجديدة ونتائجها، بمؤشراتها ومبشراتها، ستلهم المنطقة والعالم وتغيّر الموازين في كلّ الميادين، وستسقط أشباه وأنصاف الرجال وتعرّف وتؤلف قاموس الجلاء والسيادة والاستقلال بالعربي السوري وبالخط العريض الذي سيجعل من أوهام استقلال بعض الدول والمشيخات التابعة احتلالاً مقنعاً وحقيقياً سيلهم شعوبها لتمسك بأبجدية الجلاء والاستقلال.
الجلاء، بمعانيه وحاضره وماضيه، هو ذاكرة وليس ذكرى لكن لعلّ الذكرى تنفع من لا يقرأ ولا يعي ولا يعتبر من ميسلون وتشرين والقصير والقلمون والحرمون وما قبلها وما بعدها.