واشنطن بين احتواء «نكسة الكيان» وارتكاب حماقة الحرب؟
ناصر قنديل
– ليس مهماً في طوفان الأقصى من حيث التقييم الاستراتيجي أن تكون المقاومة قد حرّرت عبره أرضاً محتلة، كي تتم مقارنته بما جرى في حرب العام 1967 التي سُمّيت نكسة عند العرب، ونجح خلالها جيش الاحتلال بتوجيه ضربة قاسية للجيوش العربية ومن خلفها الشعوب العربية، بعد سنوات من اعتقاد عربي عام بأن بمستطاع الجيوش العربية «رمي اليهود في البحر». فجاءت النكسة تقول لهم إن المعادلات مع وجود الكيان لا تحكمها الأعداد البشرية والمساحات الجغرافية بل الجيوش المنظمة والاستخبارات المحترفة والبنية القتالية الصلبة والتقنيات الحديثة والقيادات المؤهلة، ورغم كل التحوّلات التراكمية التي نتجت عن حرب تشرين 1973 ومن بعدها انتصار المقاومة في لبنان بتحرير جنوب لبنان، ثم نجاح المقاومة في فلسطين بتحرير غزة عام 2005، ومن بعدها انتصارات 2006 و2008 و2013 في لبنان وغزة، وصولاً إلى سيف القدس وما بعده، إلا أن طوفان الأقصى يبقى العملية النوعية التاريخية التي أسقطت الجيش والكيان معاً بالضربة القاضية، حيث ردت عملية طوفان الأقصى رسالة عام 67 ذاتها الى الكيان قادة وجماعة وجيشاً، فقالت العملية إن القضية ليست بقدرة النيران التدميرية والأموال الطائلة والأعداد الهائلة والدعم الدولي اللامحدود، بل بالقوة المنظمة والروح المعنوية العالية والقدرة الاستخبارية الصامتة وامتلاك التقنيات الحديثة واستيعابها وحسن استخدامها، لا تحويلها إلى مجرد زينة، وامتلاك قادة على درجة عالية من الإيمان بقضيتهم الجدية في التعامل مع استحقاقاتها بعيداً عن المصالح الشخصية وحب المال والجاه والتعلّق بالسلطة، بحيث قال الفلسطينيون وعلى رأسهم حركة حماس للإسرائيليين كجماعة وكيان وجيش ومستوى سياسي وقيادة عسكرية، إن الزمن دار دورة كاملة ليعلمهم الدرس الذي علّموه للعرب عام 1967، مع فارق أن الوجود العربي الأصيل في المنطقة يتيح لهم التصحيح، بينما لا يملك مشروع الكيان قدرة التحمل ومرونة التفاعل ذاتهما.
– يعرف الأميركيون جيداً نصف هذه المعادلة على الأقل، أي أن الذي جرى ليس مجرد عملية إرهابية شبيهة بما جرى للأميركيين في 11 أيلول 2001، وأن الذي جرى على الصعيد الاستراتيجي إعلان النتيجة الطبيعيّة لتراكمات الفشل الإسرائيلي، وصولاً إلى النكسة، وأنه نقطة تحول في مسار الصراع الدائر منذ قرابة قرن تحت عنوان القضية الفلسطينية، التي لم يعد موضوع نقاش الحديث عن إمكانية تجاوزها في تشكيل نظام إقليمي للمنطقة قاعدته التطبيع الخليجي الإسرائيلي، وأن الإضافة التي أدخلتها عملية طوفان الأقصى على خريطة التوازنات التي تحكم المنطقة رجحت كفة محور المقاومة وإصاب بنكسة موازين قوى الضفة المقابلة، وأن الذهاب للحرب هو ذهاب للحرب، لو كان متاحاً لما هزم المشروع الأميركي في سورية، وما ترتب عليه من تموضع تركي، ولما انسحبت أمريكا من أفغانستان، ولما سلمت بالفشل في العراق، ولما تراجعت عن المواجهة مع إيران بصورة فتحت الباب للتموضع السعودي. وأن الرهان على شن حرب على غزة لتعديل الموازين، يتم تحييد محور المقاومة عنها، يشبه الرهان السابق على شن حرب على سورية، وتحييد إيران وحزب الله عنها، بصورة تجعل مجيء حاملة الطائرات الأميركية وما معها من مدمرات نسخة كاريكاتورية عن إرسال الأساطيل الأميركية لغزو سورية عام 2013، وسحبها دون خوض حرب، رغم الدعم العربي والإقليمي والتشجيع من الحلفاء الدوليين وفي مقدمتهم الفرنسي المتحمّس دائماً.
– مثلما تشبه عملية طوفان الأقصى نكسة عام 67 معكوسة، تشبه المداخلة الأميركية اليوم والحشود العسكرية المرافقة ما جرى العام 2013. والسؤال هو ما الذي سوف يعادل السلاح الكيميائي السوري، ويؤمن حفظ ماء الوجه لتبرير التراجع، والأميركي يعلم أن لا أحد من الذين يريد منهم الخوف من مجيئه العسكري سوف يخاف، فهو خبرهم وقد خبروه، خصوصاً إيران وحزب الله، بما يجعل الحضور الأميركي العسكري نوعاً من الاحتواء التضامني للنكسة التي أصابت الكيان، وإشعاره جيشاً وجماعة أنه ليس وحيداً، ولن يترك وحيداً، في لحظة الشعور بالسقوط، وإدارة التأقلم مع النكسة بهدوء ولو تحت صخب المدافع والغارات الجوية، وبتكلفة بشرية فلسطينية دموية عالية يندى لها جبين الإنسانية، حتى يتمّ العثور على معادلة تضمن ربحاً إسرائيلياً معنوياً يبرر التراجع عن الحرب، وتضمن تفادي انخراط حزب الله في الحرب، وتضمن فكّ وتركيب الحكومة الإسرائيلية لإخراج المتطرفين منها، وتأهيل المشهد السياسي الاسرائيلي لمسار تفاوضي يبدأ بتبادل الأسرى والرهائن والحصار. ويفتح الطريق لتعويم السلطة الفلسطينية بالانتقال بالتفاوض إلى السياسة والأمن، وتكون الجائزة هي التطبيع السعودي الإسرائيلي. ولأن مثل هذه المعادلة صعبة ومعقدة فإن المرجح أن يستمر القتل والتدمير وقرع طبول العملية البرية الكبرى، مع بعض العمليات التكتيكية التذكيرية على القشرة، بينما يستمرّ حزب الله بالمثل على الحدود، بإعلان الجهوزية والتذكير العملي بكلفة المضي قدماً في حفلة الجنون، حتى يحدث أحد أمرين، أن ترتكب حماقة سياسية إسرائيلية بتشجيع سياسي أميركي، حيث الرؤوس الحامية هي الحاكمة، فنذهب إلى الحرب، أو تنجح العقلانية البراغماتية العسكرية للدولة العميقة في أميركا والكيان التي تعرف العواقب وتعرف الموازين، وتدرك محدودية القدرات والخيارات، وحجم الأكلاف والتداعيات، فيتحقق الخروج التدريجي من الاشتباك العالي الوتيرة الى تشبيك تفاوضي على وتيرة منخفضة.