آخر الكلام
حين تحسم سورية حقائق التاريخ والجغرافيا والإنسانية
هذه الزاوية محببة إليّ، وأفسح في المجال اليوم للدكتور فيصل النفوري كي يحتلها هذا الصباح بمناظرته التلفزيونية التي أفحم بها علماء يهوداً في الأوروغواي، وذلك في منتصف الستينات من القرن الماضي.
الياس عشي
مناظرة
أجرى اليهود في الأوروغواي مناظرة تلفزيونية مثّل الجالية العربية فيها الدكتوران هلال وعقيقي اللذان دافعا عن العرب وقضيتهم، إلا أنهما لم يتمكّنا من الانتصار لقلة المعلومات المتوافرة لديهما حول الموضوع، بعكس اليهود الذين حملوا معهم إلى التلفزيون، عدا عن بنائهم العقائدي، كمية كبيرة من المعلومات والوثائق والصور، حتى أحد الأفلام.
وما كان منهم بعد انتصارهم هذا، إلا أن تحدّوا قنصل سورية ليحضر بنفسه إلى التلفزيون إنْ كان يملك الحُجّة، أو يُرسل من يشاء للمناظرة في القناة 10 بعنوان: «هل من الممكن إحلال السلام بين العرب و(إسرائيل)؟» ويهدفون من ورائها إلى إظهار العرب بمظهر المعتدين المحبّين للحرب، والإسرائيليين كمعتدى عليهم «يرغبون في السلام ويدعون إليه».
ومساء السبت، 6 تموز، اتصل هاتفياً قنصل سورية العام في الأوروغواي بإبن عمه الدكتور فيصل النفوري في بوينس آيريس، وطلب إليه الحضور لمجابهة التحدي اليهودي الذي يُضايق كثيراً أبناء الجالية العربية هناك.
وصباح 10 تموز وصل الدكتور فيصل النفوري إلى الأوروغواي ليجد أمامه في المناظرة التي أُعلن عنها في التلفزيون وفي جميع الصحف المحلية، خمسة من اليهود المتخصّصين في شؤون التاريخ والسياسة وهم:
أدواردو كوريا اغيري رئيس المؤسسة الأوروغواية الإسرائيلية، الدكتور ترايبيل أستاذ التاريخ في جامعة الأوروغواي، الدكتور إيليا بلوت أستاذ الحقوق الدولية في الجامعة نفسها، وماريوسيزار كبلون مدير الإذاعة التلفزيونية والجريدة الصهيونية في مونتيفديو…
في الموعد المحدّد بدأت المناظرة، وكانت باللغة الإسبانية…
وبعد محاورة حول تصريحات الحكومات العربية طُرح السؤال الرئيسي: «هل ممكن إحلال السلام بين العرب و(إسرائيل)؟»
فأجاب الممثل اليهودي مردّداً التصريحات والتهديدات التي جاءت بها وكالات الأخبار على ألسنة الحكام العرب، وقال إنه برغم ذلك، لا بدّ من أن يحلّ السلام بين الطرفين في يوم من الأيام.
وردّ عليه الدكتور النفوري:
نحن دُعاة السلام بين البشر قبل كلّ إنسان، فكيف لا نريد السلام!؟ نحن أوجدنا الأبجدية وأعطيناها للإنسانية ليتمّ التفاهم بواسطتها ويحلّ السلام. نحن أعطينا العالم دستور حمورابي أول شريعة في العالم، لينقل البشر من شريعة الغاب إلى إقامة الحق والعدل كي يحلّ السلام. ومنذ آلاف السنين، بنينا مدينة القدس وسمّيناها باللغة السورية الآرامية «أورشليم»، ومعنى «أور» في اللغة الآرامية «مدينة»، ومعنى «شليم» «سلام»!! ومن عندنا خرج بينيانوس والبيانوس اللذان ولدا في حمص وصور وتعلّما في جامعة بيروت، وكان لهما الفضل في خلق الشريعة الرومانية التي لم تزل في العالم أساساً لكلّ قوانينه ودساتيره لتكون جميعها واسطة لإحلال السلام.
ونحن الذين علمنا اليهود كلمة «شالوم» التي تعني «السلام»، وهي ليست عبرية بل آرامية سورية، فكيف لا نريد السلام!؟
ولكن هل ممكن قيام سلام على أساس الاغتصاب والاعتداء!؟
السلام يجب أن يقوم على أساس الحق والمنطق والإنصاف والعدالة لا على أساس أن أغتصب بيتك ثم أضع المسدس في رأسك وأقول لك: اعترف أنّ هذا القسم من البيت لي ووقع عريضة السلام!
ـ ممثل الأوروغواي اليهودي: إذن فلماذا كلّ هذه الأسلحة السوفياتية؟ أليست لإثارة الحروب وإبادة اليهود وتمكين الماركسية واللينينية من العالم العربي؟
ـ الدكتور النفوري: إنّ الأسلحة هي للدفاع عن حقّ مغتصب. وأنا أستغرب ما تعنيه من تمكين الماركسية من العالم العربي، مع أننا نعلم جميعاً أنّ الماركسية من أساسها فكرة يهودية، وقامت على سواعد اليهود وأموالهم، وأنّ كارل ماركس نفسه يهودي وكذلك لينين وتروتسكي وامرأة (ستالين) وأخوها (كاغافيتش) الذي كان أكبر القادة الماركسيين، وأكثر قادة الماركسية في بولونيا ورومانيا وأميركا اللاتينية، وكوهن بنديت الماركسي الذي كان وراء اضطرابات الطلبة الفرنسيين وقام يطلب رأس ديغول، لأنّ ديغول مال قليلاً إلى الحق وإلى خدمة مصلحة فرنسا بعد حرب حزيران الماضية.
كما ترى، فالشيوعية نمت وترعرعت بين أحضان يهودية. أما نحن في بلادنا فلنا من تراثنا وتقاليدنا وديننا ما يحول دوننا والماركسية. غير أني أسألك يا سيد اغيري كإنسان من الأوروغواي:
ترى ما هو موقفك لو أتى اليهود إلى بلادك واستولوا منها على ولاية «تكواريمبو»!؟ هل تُعطيهم السلام أم تهب لتُناضل مع شعبك؟
ـ أغيري: (بصوت خافت) طبعاً سأكون مع شعبي.
ـ الدكتور النفوري: حسنا تفعل. هكذا أريدك وطنياً مخلصاً لبلادك داعياً للنضال في سبيل الحق.
ـ اغيري: (بعد أن يستشير أستاذ التاريخ الدكتور ترايبيل): لكن فلسطين أرض يهودية منذ العصور الأولى للتاريخ؛ جغرافياً وسياسياً وحقوقياً.
ـ الدكتور النفوري: هل تعلم ماذا تعني جغرافياً وسياسياً؟ إنها تعني أنّ فلسطين تابعة لجغرافيتها الحقيقية، أيّ أنها إحدى الولايات السورية، تلك الولايات التي هي بيئة طبيعية واحدة ومجال حيوي واحد.
ـ الدكتور ترايبيل: التوارة تقول إنّ هذه الأرض لليهود، وكذلك يقول التاريخ يا دكتور النفوري.
ـ الدكتور النفوري: أما التوراة يا دكتور ترايبيل فتقول إنّ إبراهيم عندما أتى إلى القدس طلب من ملكها أن يسـمح له كغريب أن يُقيم بعض الوقت في تلك الديار، وهذا لا يعني أبداً أنّ هذه الأرض يهوديـة بل العكـس تماماً. وفي الأصحاح الـ 34 من التوراة نفسـها وردت هذه العبارة: «قال الربُ لموسـى إنك داخل إلى أرض كنعان…» وأنت تعلم يا دكتور أنّ الكنعانيين هم شـعب سـوري. وأما التاريخ فاسـمع يا أسـتاذ ماذا يقول التاريخ عن هذه الأرض:
ـ 4000 سنة قبل المسيح سمّتها الكتابات المسمارية المكتوبة على الأعمدة البابلية «مارتو»؛ أيّ الأرض الغربية لأنها غرب بابل.
ـ 2750 ق.م. يوحدها بوحدة سورية الطبيعية سرجون الأول الآكادي الكبير.
ـ 2000 ق.م. تُصبح أرض كنعان وتبقى حتى السنة 1000 ق.م حيث يستولي اليهود على قسم منها كدخلاء بعد حروب طويلة.
ـ 722 ق. م. يوحد سورية ـ وفلسطين منها ـ سرجون الثاني ويقضي على «إسرائيل».
ـ من 605 إلى 586 ق.م. يُحطم نبوخذ نصَّر دولة يهوذا ويُعيدها إلى بيئتها الطبيعية ويطرد البقية اليهودية إلى بابل.
ـ331 ق.م. يوحد الإسكندر الكبير الأجزاء السورية ومنها فلسطين.
ـ200 ق.م يكتب عنها أبو التاريخ هيرودوتس، ويُسمّيها أرض «سورية الفلسطينية».
ـ198 ق.م. تقوم فيها المملكة السورية السلوقية التي تشمل جميع تلك الأرض حتى مجيء الرومان.
ـ 63 ق.م. يفتح الرومان بقيادة (بوميجو) سورية ويجعلونها ولاية رومانية، ومنها فلسطين.
ـ 70 بعد المسيح يدخلها تيتو الروماني ويُشرّد ما تبقى من اليهود، وتبقى سورية ولاية رومانية حتى 614 ميلادية.
ـ 638 م يفتحها عمر بن الخطاب وتبقى موحدة مع سورية طوال حكم المسلمين حتى مجيء أول حملة صليبية سنة 1099 م.
ـ 1187 م يُحرّرها صلاح الدين الأيوبي من الغزو الأوروبي ثم يوحدها مع أمها سورية وتبقى كذلك حتى مجيء الأتراك.
ـ 1516 م يأتي إليها الأتراك ويمكثون فيها حتى 1918، عندما احتلها الحلفاء وقسّموا سورية ست دويلات بموجب معاهدة «سايكس بيكو» لتسهيل إقامة (دولة إسرائيل) فيها، وكي لا تقوى هذه الأمة على الدفاع عن نفسها في وجه الاعتداء الأثيم الذي لا مثيل له في التاريخ. وفي كلّ هذه الحقبة التاريخية، لم يتمكن اليهود من الأرض، إلا مدة ثلاثمئة سنة، كانت ملأى بالحروب والنضال. لأنهم كانوا يُعتبَرون دُخلاء ولا حقّ لهم فيها كما هو وضعهم في وقتنا الحاضر. إننا نستميحكم العذر يا دكتور إذ نُعيدكم إلى قراءة التاريخ وقراءة التوارة أيضاً.
ـ الدكتور ترايبيل: (يفتح كتاباً بين يديه؛ كتاباً صغيراً لأحد الكُتاب اليهود ويقول):
لنعد إلى التاريخ ولنستشهد بأكبر مرجع تاريخي في عصرنا (أرنولد توينبي). إنّ هذا المؤرّخ يقول كما جاء في الكتاب، إنّ جميع الشعوب السورية قد انقرضت بعكس الشعب اليهودي الذي عاش بذكرى تلك الأرض وبحلم العودة إليها.
ـ الدكتور النفوري: إننا نستغرب أن يستشهد أستاذ في التاريخ بكلمات أحد كبار المؤرّخين دون أن يكون بين يديه كتاب المؤرّخ نفسه «فلسفة التاريخ»، حتى نرى إذا كان (توينبي) قد قال ذلك فعلاً أم لا! وإني أتحدّى الدكتور (ترايبيل) أن يأتينا بمؤلف (توينبي) لنُظهر له عكس ادّعائه! وأكبر برهان على صحـة قولنا، هو ما فعله اليهود (بتوينبي) منذ عامين في مونتريال بكندا، حيث رشـقوه بالبيض والبندورة وهو يُلقي محاضرتـه التي نفى فيها بكلّ جديـة «حق» اليهود في الاسـتيلاء على فلسـطين!
أما الشعوب السورية يا دكتور، فإنها لم تنقرض، بل تلاحمت وتمازجت لتُكون الشعب السوري الحالي صاحب الحق في كامل أرضه!
عند هذا الحدّ سكت الدكتور (ترايبيل) ورفيقه الدكتور (بلوت) ولم يتفوّها بكلمة حتى نهاية المناظرة. غير أنّ أحد المُناظرين اليهود تسلم الحديث وراح يصف البلاد العربية بأنها ملأى بالأمراض والجهل برغم ما فيها من خيرات وأراضٍ شاسعة تفوق مساحتها ستة ملايين كيلومتر مربع، يسكنها حوالي مئة وعشرين مليون نسمة. في حين أنّ (إسرائيل) التي لا تتجاوز مساحتها ألف كيلومتر مربع، أصبحت «جنة خضراء» بعدما كانت صحراوية قاحلة. وهذا ما يجب أن يتفهّمه العرب فيُقيموا الصُلح مع (إسرائيل) ويعترفوا بها، وينتفعوا بخبرتها وعلمها. وهو أمر لا بدّ أن يتمّ قريباً لأنّ «هذه هي إرادة الشعوب العربية».
ولحُسن حظ الحقيقة كانت الكلمة الأخيرة للدكتور النفوري بعد إجراء القرعة فقال: من جهة الجهل والأمراض، أعتقد بأنك تُبالغ كثيراً. وإنْ كان شيء من هذا الاتهام، فهو من مخلفات الاستعمار وظلم المستعمرين وجهلهم وقسوتهم على شعب علَّم العالم وهداه من شرقه إلى غربه. وأنا أستطيع أن أردّ تجريحك بإحصاء واحد حصل في سورية الحالية، حيث نجد نحو 60 ألف طالب في جامعاتها من أصل سكانها البالغين حوالي خمسة ملايين، وبينما لا نجد في الأرجنتين مثلاً غير 70 ألف طالب من أصل شعبها الذي يُعد 24 مليون نسمة!
ومن جهـة فلسـطين التي تدّعون أنكم قلبتموها من صحراء إلى «جنـة خضراء»، أقول لكم إنكم لم تبنوا مدينـة واحدة من مدنها، لا قديماً ولا حديثاً. إنما نحن مَن بنى مدنها جميعاً وأنتم اغتصبتموها في غفلـة من شـعبنا!
والآن اسمح لي يا شعب الأوروغواي أن أعرفك إلى اليهود ونياتهم، إلى المقياس الذي يقيسون به بقية شعوب العالم بالنسبة إليهم؛ وهنا أخرج الدكتور النفوري من جيبه قصاصة من جريدة (كلارين) ـ أوسع جرائد الأرجنتين انتشاراً ـ يعود تاريخها إلى 6 تشرين الأول 1967، وفيها صورة (غريمبر) أحد قادة اليهود الكبار وهو يُلقي محاضرته في بيونس آيرس التي يقول فيها بالحرف:
*إنّ تفوّق اليهود على الأمم الأخرى يُلقي على عاتقهم مهمة كبرى، هي مراقبة تاريخ العالم أجمع، وتوجيهه. لأن لا أحد يعرف من هم…