الحرب النفسية هي ما سوف يقرر نهاية الحرب
ناصر قنديل
من السهل اكتشاف أن الحكم على نتائج الحروب لا يتحقق بمقارنة خسائر الطرفين، كما تقول نتائج حرب تموز 2006، وفقاً لاعترافات قادة الكيان والجيوش الغربية باعتبارها نصراً لحزب الله، رغم أن الخسائر الأكبر وقعت في بيئته وعلى ضفته في الحرب مادياً وبشرياً وبين العسكريين والمدنيين، كما أن الحكم على الحروب ونتائجها لا يتحقق بمقارنة النتائج التي تتركها الحروب على الجغرافيا، أو فرض الهيمنة، كما تقول نتائج الغزو الأميركي للعراق، حيث نجح الأميركيون بالسيطرة على الجغرافيا العراقية، وتخلّصوا من حكم الرئيس صدام حسين وساقوه الى المشنقة، لكنهم رغم هذه السيطرة اعترفوا مبكراً بأن حربهم أصيبت بالفشل. ومن السهل اكتشاف ان ما يقرر نتيجة الحرب هو الحالة النفسية للجيوش والبيئة التي تحضنها والقيادات التي ترعاها، من خلال قراءة معادلات القوة والثقة بقدرتها على ضفتي الحرب. فالهزيمة تقع في العقول أولاً، وهكذا هزم الجيش الإسرائيلي في لبنان وهزم الجيش الأميركي في العراق.
في المواجهة الحالية التي تشهدها غزة ومن خلالها فلسطين والمنطقة، تدار معادلات الحرب على هذا الأساس، ومَن ينظر للموقف الأميركي يعرف أن لا وظائف عسكرية ولا ردعية لحاملة الطائرات والمدمرات التي ترافقها، فأميركا لن تتدخل عسكرياً لأنها لا تستطيع تحمل العواقب والتبعات. وهي تعلم بالتوازي أن استدعاء حاملات طائرات لن يؤثر في قرار من تفترض انهم موضوع الردع، وهم أصحاب خبرات سابقة مع مواجهات ضارية مع الأميركي لم تنته لصالحه، خصوصاً حزب الله الذي يعتبر دخوله على خط حرب غزة العامل الحاسم في مقاربة قرار الحرب أميركياً وإسرائيلياً، ونتعرّف من كلمات الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته انتوني بلينكن الى أن الهدف الحقيقي لحاملة الطائرات والمدمرات المرافقة، والمواقف المعلنة والزيارات المستعجلة، هو معالجة الحال النفسية المصابة للإسرائيليين، قادة وجيشاً وجماعة، لتهدئة الهلع والذعر وما أصاب بنية الكيان من تصدّع، بالقول: لا تخافوا لن نترككم وحدكم، نحن معكم، أملاً بأن يخرج هذا من الإسرائيليين أفضل ما عندهم في الحرب المرتقبة.
على جبهة غزة حتى الآن المعادلة النفسية لا تسمح بقرار الحرب، فالذين خرجوا في 7 تشرين الأول من حدود غزة هم أبناء جولات حروب شبيهة بالذي يجري مع القصف التدميري الحالي، والرهان أن هذا القصف يغير الحالة النفسية لمقاتلي غزة مجرد وهم، لأنهم أبناء هذا القصف والمعنويات التي خرجوا بها يتحدّون الآلة العسكرية العالية التقنية لجيش الاحتلال كانت بمستوى يتيح لهم تحقيق القفزة المحورية، قبل أن ينهار كل شيء أمامهم، ويكتشفون أنهم أعظم مما ظنوا وأن عدوهم أوهن مما توقعوا، فعادوا الآن الى غزة بفائض قوة معنوي ونفسي يصعب تدميره بالقصف، وهو ما لا تصنعه الا إنجازات خارقة توازي وتزيد عما فعلوه. بينما على الضفة المقابلة فإن جيش الاحتلال الذي كان يدخل كل حروبه مع غزة متهيباً لمخاطر المواجهة البرية، مصاب اليوم بعقدة طوفان الأقصى. وقد رأى حالته في المرآة مزرية ومشينة، بينما رأى صورة مرعبة لمقاتلي غزة، ولن يتغيّر الحال بمجرد حشد القوات وسماع التصريحات ومجيء حاملة يعلمون أنها لن تعني تدخلاً أميركياً عسكرياً، بل إنجاز يحجم ما فعلته غزة، ويكفي للتيقن من هذه المعادلة النفسية رؤية كيف تخرج الصواريخ من غزة من الأحياء التي يتم قصفها ومن تحت ركامها، وهذا يعني أولاً فشل عمليات التدمير بالنيل من المقاومة مادياً ومعنوياً، ويعني أن من يُخرج الصواريخ الثقيلة سوف يكون جاهزاً لإخراج مشاة الكورنيت لمواجهة أي عملية برية عندما تبدأ ويتوقف القصف الوحشي.
على جبهة الحدود مع لبنان يحدث ما هو أعجب، فقد وصلت الى حزب الله خلال خمسة أيام خمس رسائل تأكيد لرغبة جيش الاحتلال بتفادي المواجهة، وخلال خمسة أيام اشتبه جيش الاحتلال بعملية تسلل مرّتين، وتبادل النار مع من ظنهم متسللين، واكتشف لاحقاً أنه يطلق النار على نفسه، وأن تبادل النار حصل بين مجموعتين من قواته كل منهما تظن أنها تقاتل متسللين. وخلال خمسة أيام انطلقت صفارات الإنذار في كل مناطق شمال فلسطين أو بعضاً منها، وهلع المستوطنون الى خارج بيوتهم هاربين، وبعضهم هرب من المنطقة كلها، وتكرّر الأمر تقريباً كل يوم، وفي بعض الأيام عدة مرات، ومثلها نداءات النزول الى الملاجئ، وإعلان الاشتباه بتسلل أو بأجسام جوية مشبوهة. ووصل الأمر الى الإعلان عن هجوم بالطائرات الشراعية ثم نفيه، وأمس انطلق صاروخ باتريوت أعلن لاحقاً أنه نتيجة إنذار خاطئ. وهذا القلق والتوتر المسيطران على القيادات والعناصر العسكرية، يلاقيه ما هو أشدّ قلقاً وتوتراً بين المستوطنين، الذين أخلوا مستوطناتهم، وهم تحت تأثير حرب نفسية ممتدة لسنوات عن خطر عبور حزب الله الى الجليل، سواء من خطابات السيد حسن نصرالله أو كلام قادة الكيان وجيشه عن هذا الخطر، وكل هذا حاضر الآن ولا يمحوه الصوت المرتفع لقادة الكيان، بينما المستوطنون يرون أيديهم ترتجف.
يمكن القول بثقة إن المعادلة التي تحكم حال الكيان هي معادلة البيضة والدجاجة. فالقدرة على تجاوز الاهتراء النفسي تحتاج نصراً، والنصر يحتاج تجاوز حالة الاهتراء النفسي.