حذار حذار من الوقوع في الفخ المنصوب!
} د. عدنان منصور*
تسارع الأحداث المقلقة التي تشهدها جبهة غزة ولبنان مع الكيان الإسرائيلي، يستدعي دراسة التطورات الجارية في المنطقة بعمق شديد، والتعاطي معها بعقلانية كاملة، وموضوعية مسؤولة، دون ارتكاب الخطأ في الحسابات، والتقييم والتشخيص، أو الاستخفاف ولو بالحدّ الأدنى بقدرات دول غربية وإقليمية متحالفة الى حدّ بعيد مع كيان العدو.
ما يحضّره أعداء الأمة، هو دفع الفلسطينيين وحلفائهم في المنطقة الى المواجهة العسكرية الحاسمة، بعد ان زلزل يوم السابع من تشرين هيبة دولة الاحتلال وجيشها، ومرغ أنفها أمام العالم كله.
الذلّ الذي لحق بغتة بـ «إسرائيل»، حملها على فقدان صوابها من خلال قيامها بإبادة جماعية في قطاع غزة، مستخدمة القوة العسكرية المفرطة، والأسلحة الفتاكة المحرّمة دولياً، والإمعان في التدمير الشامل للأحياء السكنية، والبنى التحتية والخدمية، والمرافق الصحية والتعليمية، ودور العبادة، ومنعها تزويد القطاع بأبسط مقوّمات الحياة المعيشية من ماء وطاقة، وسلع غذائية ومواد تموينية، ما شكل جرائم حرب ضدّ الإنسانية.
تتمّ هذه الجرائم على مرأى من الولايات المتحدة وأوروبا اللتين سارعتا على الفور إلى تأييد ودعم الكيان المحتلّ دون تحفظ، لا سيما موقف الولايات المتحدة التي أبدى رئيسها جو بايدن عن دعمه المطلق لـ»إسرائيل»، وتزويدها بما تحتاج اليه من السلاح، بعد أن وصف هجوم حماس على انه «شرّ مطلق»، وانّ «دعم أميركا لـ «إسرائيل» راسخ وصلب كالصخر، ولن تخفق أبداً في دعمها».
بايدن الذي عرّف عن نفسه يوماً، «أنه صهيوني»، قال انه حشد فرقة لضمان حصول الإسرائيليين على «كلّ ما يحتاجون إليه»، متحدثاً عن «مأساة إنسانية رهيبة بعد الهجوم المفاجئ على الإسرائيليين».
بايدن، بدعمه المطلق لـ «إسرائيل»، لم يتصرف كرئيس دولة عظمى، تتشدّق باستمرار بالقيم الإنسانية، وتدّعي «حرصها» على الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة والعالم. بل جعل أميركا طرفاً في العدوان، ومنحازة كلياً للكيان الإسرائيلي.
الرئيس الأميركي بايدن الطامح لولاية ثانية الذي يعوّل الأمل فيها على اللوبيات اليهودية في الداخل الأميركي، وأظهر عواطفه «الجياشة» حيال «إسرائيل»، لم تحرّك ضميره، و»ضمير» الولايات المتحدة مرة واحدة، المأساة الإنسانية الرهيبة التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع صغير فيه 2.3 مليون إنسان، وفي ظلّ حصار متوحش، شرس منذ عام 2007، لم يشهد العالم مثيلاً له، وضعته «إسرائيل» تحت الحصار، ومنعت عنه أبسط متطلبات الحياة والعيش الكريم. بل تجاهلت واشنطن بانحيازها الكامل لدولة العدوان، جرائم الاحتلال، وحقوق الفلسطينيين، والقرارات الدولية ذات الصلة، فكانت دائماً وراء تعطيل أيّ مشروع قرار لمجلس الأمن ينصف الفلسطينيين، بطرح حقّ النقض «الفيتو».
وقوف واشنطن اليوم، وبهذه الوقاحة إلى جانب «إسرائيل» ودعمها المطلق لجرائمها ضدّ اللاإنسلنية، تجد فيه الفرصة المؤاتية التي طال انتظارها
لتصفية الحساب ليس مع الفلسطينيين وحدهم، وإنما مع من يشكل في لبنان وسورية، والمنطقة، جبهة منيعة تتصدّى لكيان الاحتلال، وتفشل سياسات وخطط واشنطن وتل أبيب، فتحول دون تحقيق أهدافهما في المشرق العربي.
«إسرائيل» اليوم وبدعم أميركي مطلق، تريد استدراج قوى المقاومة، لجرّها الى حرب مدمّرة، وإنْ كانت مكلفة جداً لها، طالما انّ هدفها الرئيس تغيير المشهد بالكامل، وإفراز سياسات، ومعادلات، ووقائع جديدة على الأرض تصبّ في صالحها، وتتخطى مروحتها الإقليمية، لتأخذ في ما بعد، أبعادها الدولية.
حرب إذا اندلعت، لن تخرج بتسويات تتيح لكلّ جهة في ما بعد، العودة الى سيرتها الأولى، وإلى الوضع الذي كان قائماً، وإنما ستكون حرباً مفصلية طاحنة، وتصفية حسابات، فيها الغالب والمغلوب.
وليس من باب الصدفة يقول نتنياهو بغرور وعنجهية موصوفة – وهو المأزوم – لمسؤولين إسرائيليين، بعد أن قامت المقاتلات الإسرائيلية بعمليات قصف جنوني مكثف لقطاع غزة، من «أننا سنغيّر الشرق الأوسط».
من الأهمية بمكان، معرفة ما يبيّته مسبقاً كلّ من العدو، والولايات المتحدة، ودول أوروبية، وإقليمية،
للفلسطينيين، وللقوى الوطنية في المنطقة المشرقية من خطط، وسياسات، وقرارات، وإجراءات ميدانية عدوانية.
إنّ حسابات سياسية، وعسكرية واقتصادية، وأمنية عميقة، متشعّبة ومعقدة، وحسّاسة للغاية، تتعلق بالجبهة الداخلية، لا بدّ من درسها بعناية كاملة، وبمسؤولية كبيرة، وببصيرة واعية، حتى لا تنزلق المنطقة الى فخ وتقع فيه، حيث تحضّر له واشنطن وحلفاؤها في الغرب والمنطقة، منذ عام 2006 وحتى اليوم، من أجل تصفية حسابها النهائي مع القوى المعادية لها، والرافضة لوجود الكيان المحتل.
حذار حذار من الاستدراج، والانزلاق، والوقوع في الفخ المنصوب. إذ أنّ الغرب ومعه «إسرائيل»، لن يقبل بأيّ شكل من الأشكال هزيمة عسكرية له، مهما كان الثمن، خاصة بعد أن أخفق في تحقيق أهدافه في أوكرانيا لغاية اليوم، وفشل في فرض مشاريعه على الأنظمة الوطنية المناوئة له في المشرق العربي.
لقد استطاعت الولايات المتحدة مع حلفائها في العالم بعد عام 2006، تشويه صورة القوى الوطنية المقاومة، على الصعيد العالمي ونعتها بالإرهاب، واتخاذ قرارات دولية ظالمة بحقها، وسلخ دول عربية وجذبها الى فلك سياساتها. دول لم تتردّد لحظة في إظهار «عاطفتها الجياشة» حيال دولة العدوان بشكل مقزز، والذهاب بعيداً في تنديدها الوقح بهجوم الفلسطينيين، لتصبح سياسات دول التطبيع جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية متكاملة يقودها الغرب و»إسرائيل» معاً.
هنا تكمن أهمية دراسة الواقع على الأرض بكلّ تفاصيلها وجزئياتها، بما فيها الإمكانات المالية والمساعدات المادية المتوفرة قبل وأثناء وبعد أي حرب، ومدى متانة الجبهة الداخلية وتماسكها، ومناعتها إزاء «الطوابير» الخامسة، و»السادسة»،
و»السابعة»، ومتانة قرارها، ووحدة صفها، وهدفها، وأيضاً المتغيّرات الإقليمية والدولية، وما لها وما عليها، والنتائج التي ستترتب عن أيّ حرب في ما بعد.
حذار مما تبيّته واشنطن و»إسرائيل» والدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي، والداعمة بالمطلق لـ «إسرائيل» (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بولونيا) لاستدراج قوى المحور في الوقت والمكان الذي تحدّده، والانقضاض عليها في اللحظة المناسبة.
إنّ إعلان نتنياهو رسمياً يوم الأحد الفائت، من أنّ «إسرائيل» في حالة حرب، ثم يتبع الإعلان استدعاء 300 ألف من جنود الاحتياط، ومن ثم تشكيل حكومة طوارئ، انبثق عنها مجلس أمني لإدارة الحرب، يعني انّ إسرائيل تعتزم الذهاب الى الحرب، بغطاء دولي، وأن تحسم الموقف بسرعة، باستخدام القوة المفرطة باشكالها كافة، حيث لا تستطيع الانتظار، واستنزاف الوقت، وإبقاء احتياطييها لفترة طويلة في الميدان.
إنّ التصدّي للعدوان الإسرائيلي، وتوفير الدعم المعنوي دون المادي والعسكري للشعب الفلسطيني، والاعتماد على جبهة واحدة، أو اثنتين لا يكفي، ولا يفي بالمطلوب، ولا يلبّي مطلقاً ما يحتاجه المناضلون الفلسطينيون.
وحده الموقف العربي والإسلامي الموحّد الجامع، والحاسم يستطيع بإمكاناته الهائلة، أن يقف وقفته، ويردع العدوان، ويفرض إرادته عليه. لكن هل هذا متوفر في الوقت الحاضر، بينما دول في العالمين العربي والإسلامي، تشاهد مأساة الفلسطينيين وتصمت كصمت القبور، فيما هي أقرب الى العدو الإسرائيلي منه الى الفلسطينيين؟!
لا تجعلوا الفرصة مؤاتية لدولة العدوان، كي تفعل فعلها، ولا تعطوها الذريعة لتوسيع نطاق اعتداءاتها، والإمعان في جرائمها الوحشية، دون مبالاة بالمجتمع الدولي كله، قبل تحصين الجبهة الداخلية، والعربية
والإسلامية، ومؤازرة القوى الحرة في العالم، وتوفير كلّ مقومات ومتطلبات النصر الضرورية.
فـ بأي قرار وأي خيار سنواجه اليوم العدوان الإسرائيلي، وما يبيّته الغرب للفلسطينيين ولحركات المقاومة في المنطقة من فخاخ، خاصة بعد طوفان الأقصى، حيث تجد «إسرائيل» في الحرب الشاملة، المخرج والحلّ الملائم لها، لاستعادة ثقة الإسرائيليين بها، والأهمّ ثقتهم وقناعتهم باستمرارية دولتهم المؤقتة!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.