قانا والمعمداني… معمودية دم واحدة
} د. علي أكرم زعيتر
ما دلالات القصف الإسرائيلي للمسشتفى المعمداني في غزة؟ سؤال يتردّد بكثرة على ألسنة الناس في هذه الأثناء؟
أكثر من 860 شهيداً، قضوا دفعة واحدة، في غارة جوية إسرائيلية غادرة استهدفت المدنيين في المستشفى المعمداني.
بعضهم آوى إلى المستشفى التماساً للأمان، ظناً منه أنّ آلة القتل الصهيونية التي لا تميّز بين صغير وكبير أو بين حجر وبشر، لن تقدم على قصف المستشفى لاعتبارات إنسانية، وربما لاعتبارات قانونية. فمهما يكن من أمر نتنياهو، لن تبلغ به الصفاقة حدّ إعطاء أوامر بقتل مئات المدنيين العزل على مرأى ومسمع من العالم. لا غرو من أنه ما زال يحسب حساباً للقانون الدولي. فالخشية من المثول أمام محكمة لاهاي ــ وفق اعتقاد أولئك المساكين ــ ستشكل رادعاً قوياً يحول دون تمادي نتنياهو، أو هذا على الأقلّ ما خُيّل لهم.
فيما كان بعضهم الآخر يعود أقرباءه في المستشفى، فكثير ممن قضوا أول من أمس كانوا يعودون مرضاهم من ذوي القربى، وما كانوا يحسبون أنّ الذئب الصهيوني يمكر بهم، ويتحيّن الفرص ليسلبهم أنفاسهم الأخيرة.
هناك من يرى في هذه الجريمة الموصوفة دليلاً إضافياً على عدم جدية (إسرائيل) في اجتياح غزة برياً، فلو كانت “إسرائيل” تنوي فعلاً غزو غزة لما انتقمت بهذه الطريقة الوحشية من أبرياء عزَّل. يبدو أنّ قادة الاحتلال قد اقتنعوا أخيراً بأنه لا مجال أمامهم لغزو غزة برياً، فعمدوا إلى ارتكاب مجزرة وحشية، لتكون بمثابة تعويض نفسي عن عجزهم وخشيتهم من خوض غمار تجربة حرب برية.
وعلى الضفة المقابلة، هناك من يرى في هذه الجريمة دليلاً واضحاً على رغبة “إسرائيل” في التصعيد وصولاً إلى الحرب الشاملة، ويبرّرون رأيهم هذا بما يلي:
أ ـ لو كانت “إسرائيل” تخشى المواجهة الشاملة، أو بالحدّ الأدنى، لو كانت تخشى دخول أطراف جديدة على خط المواجهة من قَبيل حزب الله كما تروّج لذلك فصائل ودول محور الممانعة، لما تجرّأت على ارتكاب تلك الجريمة الشنعاء.
لقد ضربت “إسرائيل” بكلّ تحذيرات إيران وفصائل المقاومة عرض الحائط، وذهبت حتى النهاية في إجرامها. أول من قالها صراحةً وزير خارجية إيران د. حسين أمير عبداللهيان: إذا تمادت إسرائيل فمن المحتمل أن تصل الأمور في المنطقة إلى ما لا يحمد عقباه، فإذا بنتنياهو يأمر بارتكاب تلك الجريمة المروعة! ألا يُعدّ ذلك بمثابة تحدٍّ لإيران ولتصريحات مسؤوليها؟ يسأل أصحاب وجهة النظر هذه!
ـ لم تعبأ “إسرائيل” بالمحظورات التي يفرضها القانون الدولي، ومن بينها عدم استهداف المرافق الصحية العامة. ما يعني أنها ذاهبة في ردّ فعلها الانتقامي حتى النهاية، بما في ذلك الغزو البري.
فلو لم تكن تبيِّت نية الغزو البري، أو على نحو أدقّ لو لم تكن عازمة على ذلك، لراعت على الأقلّ القواعد التي يفرضها القانون الدولي ولامتنعت عن فعلتها الشنيعة تلك. ولكن يبدو جلياً ــ وقد أطلقت يديها التصريحات والتحركات الغربية الداعمة، بدءاً من تصريحات بايدن، وصولاً إلى تصريحات المسؤولين البريطانيين ومسؤولي الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى إرسال حاملتي الطائرات الأميركية (يو أس أس جيرالد فورد)، و(آيزنهاور) إلى المياه الدافئة ــ أنها عازمة على اجتياح غزة برياً.
إنّ من يستعرض الأفعال وردود الأفعال الإسرائيلية يلحظ سريعاً أنّ هناك تخبّطاً ما على المستويين العسكري والسياسي في الكيان المحتلّ. “إسرائيل” ليست في أحسن حالاتها كما يتوهّم بعض الحالمين، ولا تمتلك الوقت الكافي للتفكير، تماماً كما لا تمتلك ترف الاختيار. لقد مُرِّغ أنفها بالوحل صبيحة السابع من تشرين الأول 2023، وهي لم تجد أمامها سوى خيار القيام بردة فعل انتقامية صماء عمياء بكماء لا تبقي ولا تذر في قطاع غزة…
ليست المرة الأولى التي تقترف فيها “إسرائيل” جريمة وحشية من هذا النوع. فقد عوّدتنا في حروبها السابقة، على أن تتوّج غاراتها الجوية بغارة كبرى لا سابق لها. لقد فعلت ذلك في عدوان نيسان 1996 في لبنان، حيث أغارت على مركز في بلدة قانا لإيواء المهجرين تابع للأمم المتحدة، سقط فيه أكثر من مئة شهيد. ثم فعلتها مرة أخرى في عدوان تموز 2006 في قانا أيضاً، حيث قضى وقتها عشرات الشهداء بضربة جوية واحدة، وكذلك فعلت في انتفاضة الأقصى الثانية حينما ارتكبت مجزرة وحشية في مخيم جنين راح ضحيتها العشرات، والأمر عينه في حروبها المستمرة على غزة.
ومن يراقب حركة سير تلك المجازر الوحشية يكتشف أنّ “إسرائيل” غالباً ما كانت ترتكبها في الساعات الأخيرة من عدوانها. فبعد أن تستنفد بنك أهدافها، تعمد إلى ضربة أخيرة غير مسبوقة، تروِّع من خلالها المدنيين، في ما يشبه الرسالة التي تقول: أيها المدنيون كلما التفّيتم أكثر حول المقاومة وكلما احتضنتموها، ازداد غضبنا عليكم. ذوقوا وبال أمركم، فهذا جزاء من يدعم حماس وأخواتها.
إن قياس مجزرة مشفى المعمداني على مجازر قانا الأولى والثانية ومجزرة جنين وسواها، يفضي بنا إلى الاعتقاد أنّ العدوان الإسرائيلي على غزة بات في خواتيمه، فتلك المجازر كما سبق وأسلفنا وقعت قبيل وقف الأعمال العسكرية إما بساعات وإما بأيام قليلة. فهل حقاً أنّ إسرائيل وصلت إلى نهاية المطاف وهي قاب قوسين أو أدنى من إعلان انتهاء عمليتها العسكرية أم أنّ الأمور مرشحة إلى مزيد من التصعيد والتدهور؟
الكرة الآن في ملعب محور الممانعة بما في ذلك فصائل المقاومة الفلسطينية، فإما أن تردّ هذه الفصائل رداً غير مسبوق فترسي مرة أخرى قواعد اشتباك جديدة، ما يضطر “إسرائيل” إلى مزيد من التصعيد، فيفلت عندئذ عقال الأمور وتتدحرج نحو المجهول، وإما أن تردّ تلك الفصائل رداً مدروساً، ما يحدو بـ “إسرائيل” إلى صرف النظر عن أيّ ردة فعل مقابلة، وبذلك يُسجَل للمقاومة انتصاراً باعتبارها كانت صاحبة الطلقة الأولى والأخيرة.