حرب الرواية تعادل حرب الميدان
ناصر قنديل
منذ قيام كيان الاحتلال وحرب الرواية تسير بالتوازي مع الحرب العسكرية، وخلال عقود طويلة لم يكن التفوّق العسكري لكيان الاحتلال منفصلاً عن تفوّقه في حرب الرواية، حتى كاد العالم يصدق كذبة الأرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ولم يكن تفوّق الكيان في حرب الرواية مجرد عمل تقنيّ، ولا مجرد تعبير عن استثمار عقدة الذنب الغربية تجاه ما فعلوه باليهود سواء في الحرب العالمية الثانية أو قبلها، بل أيضاً لغياب وضعف الرواية المقابلة، وبدا كأن الضعف والقوة، يكونان معاً في الميدان والرواية، وذلك يعني أن الجدّي والمثابر والذي يتصرّف بروح صاحب القضية يفوز في الحربين معاً، والتعامل بروح رفع العتب او الانفعال والعاطفة أو الاستخفاف أو الغرور، لا بدّ أن يخسر الحربين معاً.
يبدو أن ما يحصُل هذه الأيام نوع من تبادل المواقع بين الفلسطينيين و»الإسرائيليين»، ليس فقط في كسب الفلسطينيين لحرب الميدان والرواية معاً، بعد عقود من فوز الإسرائيليين بها، بل أيضاً في انتقال الفلسطينيين الى المزيد من الجدية والمثابرة بروح صاحب القضية الذي لا يعتمد على أحد غير قواه الذاتية، وانتقال الإسرائيليين الى التصرّف بروح رفع العتب والانفعال والغضب والاستخفاف والغرور، وقد تسنّى لكل متابع خلال أربعين يوماً أن يضع يده على الكثير الكثير من الشواهد، سواء على درجة جدية ومثابرة الفلسطينيين، أو درجة غرور واستهتار الإسرائيليين، وكذلك على سلوك عقائدي فلسطيني يتفانى في خدمة القضية، مقابل رفع العتب وترهّل العمل الوظيفي تسيطر على الأداء الإسرائيلي.
في الأيام الأولى للحرب، كانت عملية طوفان الأقصى عملاً حربياً مبهراً لصالح الفلسطينيين، فحاول الإسرائيليون تعويض هزيمتهم بالفوز بحرب الرواية وجنّدوا رئيس أميركا خادماً لترويج روايتهم التي تتّهم الفلسطينيين بقتل الأطفال وقطع رؤوسهم واغتصاب النساء وحرق الجثث، ولم تلبث الرواية أن سقطت، لأنها اعتمدت صوراً وفيديوهات مفبركة سرعان ما تمّ فضحها، عندما سأل الفلسطينيون: هل لديكم شاهد واحد واسم حقيقي واحد وصورة حقيقية واحدة؟ وتتابعت فصول حرب الرواية، مع قصف مستشفى المعمداني، ومرة ثانية جاء الدعم من الرئيس الأميركي باتهام الفلسطينيين بقصف أنفسهم، وسقطت بتحقيقات تقنية أجرتها نيويورك تايمز، لكنها سقطت قبل بسؤال فلسطيني، لماذا لا تفعل صواريخنا بكم بمثل ما تقولون أنها فعلت بنا. وفي المرتين وقف ممثلو الاحتلال يقدّمون دليلاً مصوراً مرة عن نفق كشف التلفزيون الروسي أنه ممر لمصعد كهربائي، ومرة من منبر الأمم المتحدة يقدّمون رمزاً الكترونياً لصفحة فيديو قالوا إنها توثق ما جرى في طوفان الأقصى، فلم تتأخر قناة روسيا اليوم عن كشف أن الصفحة تعود لجرائم داعش في سورية.
جاءت قضية مجمع الشفاء الطبي لتصبح أكبر معارك حرب الرواية، بعدما كان الاحتلال قد سوّق لشريط فيديو قال إنه تصور افتراضي لبنية تحتية لقوات القسام المقاومة تحت مجمع الشفاء، قبل بدء الحرب البرية. ومع بدء الحرب البرية في غزة صار الحديث عن مجمع الشفاء يزداد حضوراً في خطاب الناطقين بلسان جيش الاحتلال، وتدخل بايدن بصورة حكواتي مرة ثانية فقال إن لديه مصادر استخبارية موثوقة تؤكد أن حركة حماس وحركة الجهاد تتخذان من مجمع الشفاء مقراً لقيادة العمليات. ودخل الاحتلال إلى مجمع الشفاء، وكانت رواياته الفضائحية، من المكتشفات التي تدعو للسخرية الى التخلي عن الرواية الأصلية حول البنية التحتية لغرفة العمليات، والأنفاق والرهائن. وكانت السخرية في وسائل الإعلام العالمية، التي تمّت دعوتها لزيارة المجمع، واول الساخرين كانت الـ سي أن أن والفوكس نيوز، ولم ينس أحد التذكير بأن المقاومة قالت منذ أول يوم إنها جاهزة لقبول لجنة تحقيق أممية في المزاعم الإسرائيلية، وكان الربح الاستباقي.
فلسطين تربح حرب الرواية وتربح حرب الميدان، لأن الجدية والمثابرة وروح القضية تفسّر ربح إحدى الحربين على انفراد، والحربين معاً.