كيف يمكن تقييم ميزان الردع الإسرائيلي؟
ناصر قنديل
يتركز كل البحث على مرحلة ما بعد حرب 7 تشرين التي بدأت مع طوفان الأقصى، على الإجابة عن سؤال هو مصير ميزان الردع الإسرائيلي، لأنه في اليوم الذي يعلن فيه وقف نهائي لإطلاق النار، سوف يكون على الحكومة وقادة المؤسسة العسكرية الإجابة عن هذا السؤال، والسؤال الذي كان يلقى جواباً حماسياً مع بداية الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة يربط وقف النار بإنهاء حركة حماس وقوى المقاومة معها، ويستعيد الرهائن دون مقابل، بدأ يصبح مؤجلاً بانتظار كيف سيكون الوضع مع نهاية الحملة. وهذا أحد أسباب الحديث عن الحرب الطويلة، لأن استمرار الحرب صار الطريق الوحيد لتفادي الأجوبة المحرجة على الأسئلة الصعبة، وأهمّها تقييم ميزان الردع.
يجمع كل الخبراء والقادة الحاليين والسابقين في كيان الاحتلال، أن الضربة التي تلقاها مفهوم الردع في يوم 7 تشرين، أبعد مدى بكثير بما أظهرته قوات القسام من قدرة على تحدي جيش الاحتلال وتوجيه هذه الضربة القاسية لصورته ومهابته، كواحدة من ركائز ميزان الردع، ذلك أن الإصابة الأهم هي تلك التي يرويها مستوطنو غلاف غزة على طريقتهم بالقول، إن الحكومة والجيش كانا يقولان للمستوطنين إن لا خوف من وجود حماس مسلحة بالقرب منهم، لأن هناك ميزان ردع يمنع التفكير بالذهاب الى حرب، وأن قواعد الاشتباك ترسم حدود ونوع العمليات التي لا تؤدي إلى حرب، وجاء 7 تشرين ليقول إن كل ذلك كان كذبة كبيرة، والحديث عن ميزان الردع ما عاد يقنع أي مستوطن بالعودة، إذا بقيت حماس على قيد الوجود في غزة، ولو في جزء من جنوبه، وهو ما يبدو أنه سيحدث بلا ريب مهما طال أمد الحرب واتسعت رقعتها وتنوّعت أسلحة القتل والتدمير المستخدمة فيها.
تآكل نظرية الردع على جبهة غزة، رغم الرهان الإسرائيلي على أن القتل والتدمير هو تسييل للردع وترجمة لما سيطال البيئة الداعمة للمقاومة في غزة كعقاب لها على دعم المقاومة وكثمن على المقاومة أن تضعه في حسابها عندما تتحدّى جيش الاحتلال. والقتل والتدمير هما آخر ما تبقى من ميزان الردع، لكنهما هنا لا يشتغلان رغم قسوة ما يجري. فلا البيئة الداعمة للمقاومة غيّرت موقفها وتراجعت عن دعمها، ولا المقاومة غيّرت مواقفها وتراجعت لتختار طريق تقديم التنازلات، بل إن القتل والتدمير وحدهما، طالما أن العمل الحربي المباشر ضد حماس وأخواتها لا يحقق تقدماً في سحق البنى والهياكل العسكرية، يتحوّل إلى معادلة ردع عكسية، حيث أخذ العالم ينقلب على كيان الاحتلال، شوارع مشتعلة بالمواقف الآخذة بالتصاعد ضد الكيان، وحكومات تضغط لوقف العمليات الحربية لأنها لا تستطيع احتواء شوارعها، هذا عدا عن أن طول أمد الحرب يجعل فرضيات الحرب الإقليمية أعلى. وهذا جوهر ما يقوله الأميركيون سراً وعلناً بالدعوة إلى الإسراع في إنجاز المهمة أو الاكتفاء بما أنجز منها. وبمعنى أوضح لجهة المستقبل، وهذا مضمون المقصود بالردع. فإن ما جرى يقول إن حماس مستعدّة لفعل ما فعلت ولم تأخذ في حسابها ميزان الردع، وإنّها لن ترتدع عن فعله مجدداً بسبب ما ارتكبه الاحتلال من قتل وتدمير، بينما ليس أكيداً أن الاحتلال قادر على ارتكاب فعل القتل والتدمير ذاته مجدداً، في ضوء ما يبدو من محدودية الأثر لفعله هذا، وللنتائج القاسية التي تترتب عليه.
الصورة على جبهة لبنان تبدو أكثر سوداوية بالنسبة للكيان، حيث لم ينجح ميزان الردع في حماية قواعد الاشتباك التي كانت سائدة قبل 7 تشرين، ويبدو حزب الله كل يوم وهو يفرض قواعد اشتباك جديدة على جيش الاحتلال أن يجاريه في تقبلها دون التهديد بالذهاب إلى الحرب. وهذا يعني سقوطاً نهائياً لميزان الردع من الطرف الإسرائيلي، وتعزيزه من الجانب اللبناني. والحصيلة هي أن جيش الاحتلال الذي كان يتوهّم الردع المتبادل، صار هو مردوعاً وحده يتفادى تحدّي قواعد الاشتباك الجديدة بالذهاب للحرب ويضطر إلى مجاراتها، وهذا هو الردع، بينما لا يبدو أن حزب الله يقيم حساباً لمخاطر تجاوز قواعد الاشتباك القديمة، واحتمال أن تأخذه الى حرب، بل إنه يعمد كل يوم الى تغيير هذه القواعد علامة على سقوط فعالية الردع الإسرائيلي. والمشكلة هي أن هذا التوازن الذي تمّ كسره لصالح حزب الله سوف يخيّم على المشهد عبر الحدود في اليوم الذي تقف فيه الحرب، وتعديل الميزان يستدعي حرباً، يعرف الكيان أنها فوق طاقته.
ثمّة ما هو جديد أيضاً في ميزان الردع على الحدود مع لبنان، هو أن مجاراة جيش الاحتلال لقواعد الاشتباك التي يفرضها ويغيرها حزب الله يومياً، تضمّنت استجابة من جيش الاحتلال معادلة معاكسة لتلك التي يحاول تثبيتها في غزة. فهو هنا يعترف أن التهديد بالتدمير والقتل لم يعد من عناصر الردع والردع الافتراضي، ذلك أن الردع المعاكس بدا حاضراً بقوة، في استجابة جيش الاحتلال تحذيرات حزب الله من العبث بمعادلة المدنيين، وفق ما يعلمه الجيش من قدرة نارية نوعية وكمية لدى المقاومة، ربما تفوق قدرة جيش الاحتلال. والصعود الى سلم التصعيد سيجلب كوارث بشرية واقتصادية، ونتائج مروعة لذلك على ميزان الردع، وصار المشهد كأن تفاهم نيسان 1996 هو ما ينظم الوضع عبر الحدود، لكن ليس بين مناطق لبنانية محرّرة ومناطق لبنانية تحت الاحتلال، بل عبر حدود جغرافية كل من لبنان وفلسطين المحتلة، وفي مواجهة عسكرية لا يبدو جيش الاحتلال واثقاً من أن أحداً يصدق إذا تحدث عن ميزان ردع، في ظل رعب العبور الى الجليل، خصوصاً بعد 7 تشرين.
المأزق الوجودي للكيان لن يتأخر عن الظهور بمجرد انتهاء الحرب، على قاعدة أن الإسرائيليين سيفتقدون لمعادلة الردع التي كانت تبقيهم في المنطقة، والتي يدركون استحالة العيش بدونها، ولذلك تبدو الحرب الطويلة إلى أبعد حدّ يتحمله الاقتصاد ويتقبّله المستوطنون، الخيار الأفضل المؤقت.