يزول الكيان وتبقى فلسطين…
} أحمد بهجة
يقول تاريخ الإنسانية إنّ ما من احتلال استمرّ ودام، وإنّ كلّ احتلال إلى زوال، وأكثر ما ينطبق هذا الكلام على الكيان الصهيوني المؤقت الذي تأتي الوقائع والحقائق كلّ يوم لتؤكد أنه زائل في وقت غير بعيد أبداً.
أما فلسطين فهي الباقية بأهلها وناسها الصامدين المتعالين على الجراح والمآسي والآلام، الباقية بمقاتليها الأبطال الأشداء الذين تُزلزل أقدامهم الأرض من شدة الثبات والعزم، والقدرة على الفعل والإنجاز والانتصار…
وهناك الكثير من الدلائل على ما نقول، ولكن من دون الغوص كثيراً في التفاصيل، تكفي الإشارة أولاً إلى العامل الديموغرافي وما تورده الوكالة اليهودية من أرقام بشأن عملية استقطاب اليهود في مختلف أنحاء العالم للمجيء إلى فلسطين والاستيطان فيها.
كانت المعطيات تشير إلى بدء تراجع عملية الاستقطاب مع التهشيم الذي لحق بصورة جيش العدو بعد اجتياح لبنان في العام 1982، حيث ألحقت المقاومة المتصاعدة حينذاك الهزيمة تلو الهزيمة بذلك الجيش المتغطرس، وأجبرته في الثمانينيات على الانسحاب تباعاً من بيروت والجبل وشرق صيدا وجزين، وحصر احتلاله بالمنطقة التي جرى التعارف على تسميتها بـ «الشريط الحدودي».
ولكن مع بداية التسعينيات كان انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق، ما أدّى إلى انتعاش عمل الوكالة اليهودية في استقطاب أعداد كبيرة من اليهود الذين كانوا يعيشون في روسيا وأوكرانيا وفي غيرهما من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وفي دول أوروبا الشرقية، فضلاً عن استقطاب آخرين يعيشون في دول الغرب، وذلك مع انطلاق ما سُمّيَ «عملية السلام» في الشرق الأوسط، ما يجعل المستوطنين في الكيان يعيشون حياة الاستقرار والرفاهية والبحبوحة.
بدأت هذه الأوهام تتبخر شيئاً فشيئاً مع انكشاف أوهام «السلام» في أواسط التسعينيات، ثم أتى انتصار لبنان بمقاومته وجيشه وشعبه عام 2000، وبعده انتصار العام 2006، ليقضي على مقولات الأمان والاستقرار، وليظهر حقيقة أنّ الكيان «أوهن من بيت العنكبوت» وأنّ جيشه الذي قيل إنه لا يُقهر انهزم واندحر أمام مقاومتنا الشجاعة الباسلة، وأمام صمود شعبنا الذي عاد في ساعات قليلة إلى قراه ومدنه في 14 آب 2006، وهو يردّد أنّ كلّ ما جرى تدميره هو فداء للمقاومة وسيدها وأبطالها، وسوف نعيد البناء والعمران أفضل مما كان.
استمرّ الوضع على هذه الحال لسنوات، كانت فيها المقاومة في لبنان وفلسطين تراكم أسباب القوة، فيما العدو الصهيوني عاجز عن فعل أيّ شيء، رغم محاولاته واعتداءاته الوحشية المتكرّرة على الفلسطينيين في قطاع غزة خصوصاً وفي الضفة الغربية والقدس لا سيما الاعتداءات المستمرة على المسجد الأقصى.
في هذه الأثناء كان الكيان ينزف على الصعيد الديموغرافي، فلا قدرة له على استقطاب المزيد من اليهود، ولم تعد تنفع الوعود والمغريات والتسهيلات، فيما أرقام الهجرة المعاكسة آخذة في التصاعد، حيث يعود الآلاف إلى البلدان التي جاؤوا منها وهم في الأساس لديهم جنسيات تلك الدول التي تقدّم لهم امتيازات كثيرة لم يعد الكيان قادراً على تقديمها.
إلى أن أتت أسطورة «طوفان الأقصى»، والتي قضت نهائياً وإلى غير رجعة على صورة الكيان في العالم أجمع، حيث ترسّخت القناعة بأنّ هذا الكيان مهزوم وضعيف و»أوهن من بيت العنكبوت»، وأنّ جيشه تمّ قهره وإذلاله بطريقة مهينة جداً، إذ استطاعت ثلة من المقاومين الأبطال يبلغ عددها 1200 عنصر التغلب على أكثر من 15 ظابطاً وجندياً صهيونياً من الفرق التي كانت مهمتها حماية ما يُسمّى «غلاف غزة»، وتبعثر هؤلاء جميعاً بين قتيل وجريح وأسير وهارب من الميدان، وبقي جيش العدو أكثر من 48 ساعة غائباً عن الوعي، وقبل أن يقوم بأيّ عمل وقبل أن يردّ برصاصة واحدة، دبّ المسؤولون السياسيون الصوت يطلبون النجدة والإغاثة من الرعاة والحلفاء الذين سارعوا للإتيان إلى كيان الاحتلال واستقدَموا معهم الأموال والمساعدات والبوارج العسكرية وحاملات الطائرات والغواصات النووية…
ورغم ذلك، وبعد مرور 45 يوماً على العدوان البربري والوحشي والهمجي الذي يشنّه العدو على قطاع غزة لم يستطع تحقيق أيّ هدف، سوى أنه كعادته يخوض «حرب الجبناء» ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين، حيث لم تيبقَ مؤسسة مدنية من مستشفيات ومدارس وكنائس ومساجد ومراكز إيواء إلا وارتكب فيها العدو أفظع المجازر والجرائم على مرأى ومسمع العالم أجمع بما في ذلك العالم العربي والإسلامي الذي يقف عاجزاً حتى عن تنفيذ مقرّرات 57 دولة اجتمعت في قمة الرياض بفتح معبر رفح لإيصال المساعدات الإسعافية والطبية والوقود إلى المحاصرين في القطاع الذين يفتقدون إلى أبسط مقومات الحياة…
هذا الجانب الإنساني الموجع والقاسي جداً هو المنتصر في غزة، حيث يقابله فشل العدو وعجزه عن تحقيق أيّ هدف عسكري، في مواجهة المقاومة في غزة أو في جنوب لبنان.
إزاء هذا الواقع، سوف يكون العدو أمام كارثة ديموغرافية، إذ تشهد المطارات زحمة كبيرة في أعداد المستوطنين الذين يغادرون الكيان، ومنهم مَن غادر عن طريق مطار عمّان، حيث يفيد الشهود العيان بأنّ أعداد المغادرين هي بعشرات الآلاف الذين لا يصرّحون بجنسيتهم «الإسرائيلية» بل يستخدون جوازات سفرهم الأخرى، بهدف الحصول على تسهيلات في المطارات التي يستخدمونها، لأنّ استخدام جوازاتهم «الإسرائيلية» قد يعرّضهم لمضايقات معينة بسبب أنّ الكيان لا يريدهم أن يغادروا بهذه الأعداد الهائلة…
وبمجرد متابعة ما يقوله المستوطنون في شمال فلسطين المحتلة على الحدود مع لبنان، وفي «غلاف غزة»، بأنهم لن يعودوا إلى تلك المستوطنات مهما كانت التطمينات والضمانات، يمكن تكوين فكرة واضحة عن الكارثة التي ستلحق بالكيان، وستكون أكثر المؤشرات أهمية إلى أنه سائر على طريق الزوال من الوجود…