«التهجير القسري» والأمن القومي المصري…
} د. جمال زهران*
لا شك في أنّ الكيان الصهيوني، يرتكب حالياً ومنذ سبعة أسابيع (نحو 50 يوماً)، مجازر ضدّ الفلسطينيين في غزة تحديداً، بلغت أكثر من ألف مجزرة، وهو رقم قياسي تاريخي، سيظلّ وصمة عار على كلّ العالم في هذه المرحلة التاريخية، الذي لم يتخذ من الإجراءات التي تجبر هذا الكيان (الزائدة الدودية في الإقليم)، على التوقف عن مجازره، حتى لو وصل الأمر إلى استخدام القوة العسكرية ضدّه، مثلما حدث في وقائع أخرى، لم تصل بعد إلى 1% مما يرتكبه هذا الكيان غير الشرعي، ضدّ شعب أعزل ومحاصر منذ عام 2007 وحتى الآن! والنماذج كثيرة، ولكنها ازدواجية مجتمع القوة الذي ينتمي إلى عصر الاستعمار الأميركي والأوروبي، الذي لم يرحل حتى الآن، وهذه من نفاياته وبقاياه القذرة.
فقد راح ضحية ذلك نحو 13 ألف شهيد، وأكثر من 30 ألف مصاب، نصفهم على الأقلّ من الأطفال، ونحو (70 – 80%)، أطفال ونساء وشيوخ! دون رادع حتى الآن!! حتى أنّ دخول المساعدات لهذا الشعب الأعزل في غزة، لتوفير الحدّ الأدنى من مستلزمات الحياة، وسط الرعب والخوف والفزع، يستلزم موافقة المجرم والإرهابي الذي يتمثل في الكيان الصهيوني. فهل هذا يدخل في بند أو مربع التستر العالمي والإقليمي على المجرم، وإشارة لكي يستمرّ في القتل العمدي والإبادة الجماعية، لإجبار شعب غزة على الترحيل الإجباري من الشمال في غزة إلى جنوبها، ثم إلى أرض سيناء، في مشروع «تهجير قسري»، لم يشهده التاريخ الحديث، حتى الآن، وسط رفض مصري شامل، شعباً وجيشاً وقيادة، ولم يعد بقدرة أيّ طرف على القبول والاستسلام لهذه المشروعات الصهيونية والاستعمارية (أميركا وأوروبا)، التي من المؤكد أنّ تداعياتها خطيرة على الأمن القومي المصري خاصة والعربي عامة.
ويمكن رصد هذه التداعيات في ما يلي:
1 ـ دخول مصر، حالة عدم الاستقرار الدائم، أو ما يمكن تسميته بدورة عدم الاستقرار السياسي المركب، الذي لا تستطيع مصر أن تخرج منه بسهولة، أو في مدى زمني معيّن. وعلينا أن نتذكر أنّ فترة الاحتلال الصهيوني لمدة 6 سنوات (1967 – 1973)، كانت من أقسى الفترات في تاريخ مصر، للشعب والجيش والقيادة، ولم نشفَ من ذلك إلا بحرب أكتوبر 1973، التي كانت مقدمة لاسترداد الأرض وبقيود اتفاقيتي كامب ديفيد والمعاهدة المصرية الصهيونية (78/ 1979)، فضلاً عما نعانيه في سيناء من جماعات الإرهاب خلال السنوات الماضية، ولم تتعدّ الألف شخص!! فما بالكم إذا سمحنا بالتواجد لأكثر من مليون شخص (فلسطيني)، بدلاً من وطنهم غزة، ولفترة مفتوحة، أليس لذلك الوضع جملة مخاطر على الأمن القومي المصري؟!
2 ـ تمكين الكيان الصهيوني، من التوسّع، بإعادة احتلال غزة، وإقامة المستوطنات، وخلق الأمان والاستقرار لمواطنيها، بعد أن تكون قد صدّرت القلق وعدم الاستقرار إلى مصر. ولعلّ ذلك – حال تحققه، يعتبر ميزة استراتيجية (سياسياً وعسكرياً واقتصادياً)، لهذا الكيان على حساب الشعب الفلسطيني، وتلك هي النكبة الكبرى الثانية، بعد النكبة الأولى في عام 1948. ويعتبر ذلك إحدى أهمّ السلبيات على الأمن القومي المصري.
3 ـ تعرّض الأمن القومي المصري والعربي، للانكشاف، حال تمكين الكيان الصهيوني من تحقيق حُلمه في «التهجير القسري» لفلسطينيي غزة، وغداً فلسطينيي الضفة، إلى الأردن، لتنتهي القضية الفلسطينية، بالسيطرة الكاملة للكيان الصهيوني، على أرض فلسطين، ويتفرّغ بعدها لتحقيق مشروعه من النيل إلى الفرات، بالتوسّع التدريجي أو السريع، حسب الظروف!! فمن يتحمّل هذه المسؤولية التاريخية، مصرياً وعربياً وإسلامياً؟!
4 ـ فقدان الدور القيادي لمصر، عربياً وإسلامياً، عند تمكن الكيان الصهيوني، من تحقيق أحلامه ومشروعاته، لأنّ مصر ستدخل مربع عدم الاستقرار، وتزايد معدلات العنف في سيناء، وتزايد معدلات الإرهاب الذي من المحتمل أن ينتشر في مصر، وبيد المتطرفين الفلسطينيين، الذي لن يبرح إدراكهم أنّ مصر قد ساهمت في التمكين الصهيوني من تهجيرهم القسري خارج بلدهم.
5 ـ دخول مصر، مربع المساهمة في التخلص من المقاومة الفلسطينية، بمختلف فصائلها، وهو خطأ تاريخي، يتعارض مع الدور التاريخي لمصر في دعم المقاومة وحركات التحرر، ومنها انطلقت المقاومة الفلسطينية في عام 64/1965، والمقاومة الجزائرية، وغيرهما في أفريقيا وآسيا والمنطقة العربية. الأمر الذي يسهم في تعريض الأمن القومي المصري لمخاطر شديدة، وتعريض الأمن القومي العربي، للانكشاف، وتفكك الإقليم العربي للأبد.
تلك هي أهمّ خمسة مخاطر كبرى، تستوجب، إصرار مصر على عدم الانخراط في ما يُسمّى بصفقة القرن، أو دعم فكرة «التهجير القسري»، للفلسطينيين من غزة إلى خارجها، بل إنّ الأمر لا يجب أن يتوقف عند هذا الحدّ، كما أنّ مصر مطالبة، بدعم شعب غزة، بكلّ السبل، ودعم المقاومة على الصمود، لأنّ ذلك يصبّ في دعم الأمن القومي وحماية متطلباته. فدور مصر يحتاج إلى فعالية أكبر، وهذا هو أمل الشعب العربي في كلّ قطر، وهو الذي يحب مصر وشعبها إلى حدّ العشق، تلك هي الحكمة التاريخية. حيث إنّ مصر بدون العرب، كما أنّ العرب بدون مصر، تعادل صفراً، وهو العروة الوثقى…
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس ـ جمهورية مصر العربية.