دماء الأبرياء ليست ورقة انتخابية لأحد
} د. حسن أحمد حسن*
من حق المتابع العادي أن يتساءل بعد انقضاء شهر ونصف الشهر على انطلاق ملحمة طوفان الأقصى: وماذا بعد؟ وهل ما أنجزه المقاومون الفلسطينيون يستدعي استحضار البوارج والمدمّرات وحاملات الطائرات وآلاف المارينز وجنود النخبة من أكثر من دولة أطلسية سارع مسؤولوها للتشمير عن سواعدهم والتكشير عن أنياب زرقاء تقطر بدماء الطفولة والبراءة الإنسانية، وأعلنوا ترادفهم في نسق منتظم خلف سيدهم الأميركي نصرة للكيان الأكثر دلعاً وغنجاً ودلالاً في العالم، والأكثر حاجة للدعم لطمر جرائمه التي يندى لها جبين الإنسانية، والتغطية على عنصريته وهمجيته المفرطة في القتل والتدمير بوحشية فاقت إمكانية الفهم والتسويغ تحت أيّ مسمّى كان.
طالما أنّ السؤال العريض عما تعنيه غزة لإدارة بايدن والغرب الناتوي بقي حتى الآن من دون جواب دقيق ومحدّد بنقاط يفهمها القارئ يصبح مطلوباً البحث عن أجوبة مقنعة للعقل بطرق أخرى، وإنْ تطلب الأمر إعادة طرح السؤال بصياغات جديدة تدور في الشارع الأميركي وغيره، فما الذي تريده الولايات المتحدة الأميركية من غزة؟ وماذا عن المظاهرات التي شهدتها المدن الأميركية الكبرى في أكثر من ولاية، كما غصّت العديد من المدن في دول الغرب الأطلسي بمظاهرات مشابهة تميّزت برفرفة العلم الفلسطيني، ومع ذلك لم تثمر حتى الآن عما يمكن أن يُبنى عليه لوقف نهش اللحم الفلسطيني حياً ومشوياً بقنابل الفوسفور وبقية أسلحة التدمير الشامل المصنّعة في أميركا وغيرها لضمان «الحفاظ» على «حقوق الأطفال والنساء» وما تبقى من قيَم إنسانية توارثتها البشرية عبر تاريخها الطويل.
المحاكمة الموضوعية لما حدث ويحدث ومحاولة قراءته بشكل يقنع العقل تشير إلى أنّ صناع «الديمقراطية الغربية» ومروّجيها ابتكروا طريقة لا تخطر على ذهن بشر، وتوصّلوا إلى نتيجة عجيبة غريبة يريدون الاستثمار فيها والحصول على رقم جديد لبراءة اختراع يسجلونها باسمهم في سجل «غينيس»، وفحوى تلك البراءة يتلخص في أنّ الطريقة الممكنة والأنجع لضمان «الحفاظ» على حقوق الأطفال والنساء والعجائز والعاملين في مجال الصحة والبيئة وما شابه ذلك إنما تكون بقتل أولئك جميعاً، وكلّ من يموت أو يطاله التدمير والإفناء والإبادة يصبح محصّناً ولا يمكن انتهاك حقوقه، وبخاصة أنّ بلاد العم سام أخذت على عاتقها فرض الصمت على الكون إذا كان باستطاعة الوحوش الإسرائيلية المسعورة وأد مظاهر الحياة وإبادة كلّ من يتنفس فيزيولوجياً أو معنوياً وروحياً عبر التاريخ والجغرافيا والثقافة والقيَم المتوارثة، ويبدو أنّ كلّ ذلك مترافق ومتزامن مع التسليم البايدني بصحة أية سردية إسرائيلية يتمّ ترويجها فتسارع إدارة بايدن لتبنيها على الفور والعمل على تعميمها حتى وإنْ تطلب الأمر محاولة إقناع الجميع بصحة الفكرة التي تشير إلى أنّ إبادة جيل كامل أو جيلين أو أكثر من الشعب الفلسطيني سيرعب الجميع بالتزامن مع إغلاق الفضاء الأزرق أمام بعض «ثقيلي الدم» فتمرّ الجريمة بعيداً عن الضجيج، ومع مرور الوقت لن يبقى من يتكلم عن حقوق تجب حمايتها، فأصحاب الحقوق: /الخدج ـــ الأطفال الصغار ــــ طلاب المدارس ـــ النساء ــــ ممثلو المنظمات الإنسانية ـــ الأطباء والممرضون وبقية العاملين في المجال الصحي إلخ…/ وغيرهم كثر لم يعودوا على قيد الحياة، ويجب نقلهم إلى سجل الموتى وفق منطق حكام تل أبيب، وبذلك يرتاح الغرب الأطلسي «المتحضّر» من وجع الرأس وخروج المظاهرات المساندة للفلسطينيين وحقهم في الحياة فوق ترابهم الوطني المثخن ببقايا القنابل الارتجاجية وصواريخ الفتك والإبادة المنظمة والممنهجة خدمة لمصالح الكيان الإسرائيلي، ولضمان تأخير مثول نتنياهو أمام القضاء تمهيداً لمحاكمته وزجه في السجن.
يدرك من يقودون الحرب النفسية والحرب الناعمة ويشغلون الغرف المظلمة بفرق من المتخصّصين بمصادرة الإرادة، والعمل على كيّ الوعي المجتمعي أنّ الخطاب الذي تمّ تسويقه واعتماده غير مقبول، ومن الضروري إعادة هندسة شكله ومضمونه حتى وإنْ تطلب الأمر مشاركة بايدن شخصياً عبر نشر مقال باسمه في صحيفة «واشنطن بوست» بتاريخ 18/11/2023. إلا أنه لم يقدّم أجوبة بل زاد الغموض والالتباس وسوء الفهم، حيث ركز على تمسك البيت الأبيض بحتمية الانتصار على روسيا وغزة، وحصر بايدن الخطر الأهمّ الذي يواجه واشنطن ثنائي المرجعية والخلفية حيث «بوتين» و»حماس»، فأي مخمصة تلك التي أغرق بها ذاته؟ وما هي المقاييس والمعايير البايدنية المعتمدة التي ساوت بين دولة عظمى وقطب مكافئ كروسيا الاتحادية وبين غزة المحاصَرة منذ عقود؟ وفي الوقت نفسه كيف يمكن فهم نواح «زيلينسكي» وتظلّمه وشكواه من إعادة توجيه سيل المساعدات العسكرية والمالية باتجاه تل أبيب وقطع الطريق عليها باتجاه كييف؟ وهنا يصبح التساؤل مشروعاً: إلى متى ستبقى الأساطيل الحربية الأميركية وحاملات الطائرات التي تنفذ أوامر البنتاغون جاثمة في الضفة الشرقية للبحر المتوسط؟ وماذا عن الأفق المجهول لتاريخ تقريبي لنهاية الحرب على الأرض الغزاوية، على الرغم من ضيق مساحة القطاع ومحاصرته وقطع سبل الحياة ومقوّماتها، وحصر أنفاس سكانه، وإذا كان الشارع الأميركي يرى في مقال بايدن المذكور بداية غير موفقة لحملته الانتخابية، فعلى من يعمل مع إدارة بايدن من داخل أميركا وخارجها أن يتيقنوا أنّ دماء الفلسطينيين ودماء أبناء المنطقة ليست دعاية انتخابية موفقة، ولن تكون كذلك، بل قد تتحوّل في أي محطة إلى كعب أخيل لدى بايدن وإداراته وحزبه الديمقراطي المتشظي والمنقسم أفقياً وعمودياً، وتزداد خطورة استخدام الدماء كورقة انتخابية مع التبدّل الجوهري في الرأي العام العالمي بعامة والأميركي بخاصة، وافتضاح سلة النفاق والكذب والتضليل بكلّ ما له علاقة بما جرى ويجري في غزة وفلسطين وعموم المنطقة.
باختصار شديد يمكن القول إنّ ملحمة طوفان الأقصى لم تجرف معها فقط هيبة جيش الاحتلال الإسرائيلي وتكشف ضعفه وعجزه عن حماية نفسه قبل المستوطنين، بل جرفت وتجرف أهمّ أوراق قوة الغرب الأطلسي عبر نسف كلّ ما له علاقة بالسردية الإعلامية العامة منها والخاصة، فالنفاق الغربي الناتوي لا يقتصر على مناصرة باطل الكيان الغاصب، ولا على السكوت المفضوح والمريب عن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، بل تمتدّ دلالات الكذب والتضليل إلى استهداف المجتمع والشعب في عواصم الغرب ومدنه التي شهدت مسيرات مؤيدة للحق الفلسطيني ومظاهرات تجاوز أعداد المشاركين فيها مئات الآلاف ممن خرجوا للتنديد بمواقف حكومات دولهم الداعمة للعنصرية الإسرائيلية، وهذا يؤكد الحقيقة الأهمّ والمتمثلة بأنّ كذبة الديمقراطية التي يتجلبب فيها الغرب الدائر في الفلك الأميركي لم تعد قابلة للتسويق، فقد ضُرِبَ عرض الحائط بإرادة ومناشدات مواطني تلك الدول الداعية لوقف شلال الدم المسفوح، لكن إرادة أولئك ـــ على كثرتهم ـــ لم تلقَ أذناً صاغية، بل قوبلت باستهجان مفاصل صنع القرار المستخفين بمطالب وقناعات كلّ من لا يذعن لمشيئة مصّاصي الدماء وفراعنة القرن الحادي والعشرين وقد تحوّلوا إلى وحوش مسعورة تنهش كلّ من يقف في طريقها وتصيبه بسعار غير قابل للشفاء…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك
والدراسات الاستراتيجية.