الهدف الحقيقي لحرب «إسرائيل» سقط في رمال غزة!
} د. عدنان منصور*
قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي في فلسطين وأثناءه وبعده، تحكمت بعقل الصهاينة، إيديولوجية فريدة، رسمت وبرمجت السلوك العنصري، والخطط، والسياسات التوسعية، والاستيطانية اللاحقة للقادة الإسرائيليين، لجهة مفهوم الدولة، والقومية، والأرض، والحدود، ومميّزات «الشعب المختار».
بعد أشهر من إعلان الكيان «الإسرائيلي»، قال الياهو كارميلي، عضو الكنيست الإسرائيلي: «أريد للدولة اليهودية أن تكون يهودية تماماً». وقال دافيد بن غوريون: «إنّ الأرض التي عليها عرب، والأرض التي ليس عليها عرب، نوعان مختلفان جداً من الأرض».
ظلت المشكلة الديمغرافية ذات أولوية كبيرة تؤرق الكيان المحتلّ حتى يومنا هذا، حيث تشكل التهديد الجدي، والتحدّي الأكبر لاستمرارية الدولة المؤقتة، نظراً للتفوق العددي الفلسطيني، وتأثيره على المديين المتوسط والبعيد على «يهودية الدولة»، الى جانب تطوّر وتقدّم الفلسطينيين في مختلف المجالات.
فرغم الهجرة اليهودية المستمرة الى فلسطين، والزيادة الطبيعية في مواليد اليهود، لا يزال العرب في فلسطين التاريخية يشكلون اليوم %51 من مجمل السكان.
لذلك ظلّ مفهوم العدد الهاجس الذي يقلق باستمرار «إسرائيل»، التي لم تتخلّ يوماً عن فكرة السيطرة الكاملة على أرض فلسطين وما بعد فلسطين، رغم اتفاق أوسلو الهجين مع السلطة الفلسطينية، أكان ذلك في غزة أو في الضفة الغربية، أو غيرها. وإذا كانت الظروف التي أحاطت بـ «إسرائيل» أثناء صدور القرار الدولي بتقسيم فلسطين عام 1947، لم تسمح بتوسيع رقعة الاحتلال، لكون العرب في ذلك الوقت أكثر عدداً من اليهود. هذه الحقيقة تدحض مزاعم الصهاينة، ومنهم يسرائيل زانغويل أحد الصهاينة الأوائل، وصاحب القول المشهور عن فلسطين: «أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض».
رغم رفض عدد من قادة الصهاينة مشروع التقسيم، ومنهم مناحيم بيغن الذي اعتبر «أنّ أرض أجدادنا غير قابلة للتقسيم، وأيّ محاولة لتجزئتها ليست مجرد عملية إجرامية بل عملية باطلة… والذي لا يعترف بحقنا في وطننا كله لا يعترف بحقنا في أيّ جزء من أجزائه». لكن بن غوريون في هذا الشأن كان براغماتياً وانتهازياً، إذ نصح زملاءه بقبول التقسيم، لأنه كما قال: «لا يوجد في التاريخ ترتيب نهائيّ، في ما يتعلق بالحكم، ولا في ما يخص الحدود والترتيبات الدولية».
ارتفاع حدة النزعة العنصرية والتطرف، وازدياد شهية التوسع لـ «إسرائيل»، بدا جلياً وأكثر حدة واندفاعاً، مع ظهور حزب الليكود عام 1977 بزعامة مناحيم بيغن، الحافل تاريخه بالجرائم الوحشيّة التي ارتكبها، أثناء قيادته لعصابة الأرغون المسلحة، وهي تجتاح المدن والقرى الفلسطينية، وتقوم بحملة إبادة جماعيّة فيها، وتطهيرها من سكانها، بعد الإجهاز عليهم، والتمثيل بجثثهم، وكانت أبرزها، مجازر قرى دير ياسين في 9 نيسان 1947، ونصر الدين وعين الزيتون، وغيرها.
مجزرة دير ياسين كانت تعني الكثير لبيغن عندما قال: «إنّ قوة التقدّم في تاريخ العالم هي للسيف. نحن نحارب، إذن نحن نكون. ولولا النصر في دير ياسين لما كانت دولة «إسرائيل». كان ظهور حزب الليكود عام 1977 الذي أسّسه مناحيم بيغن، بمثابة زلزال في السياسة الإسرائيلية، وسياسات الحزب، بعد إطاحته بحزب العمل الاشتراكي الذي تزعّمه دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء للكيان عام 1948. بيان الليكود أعلن صراحة «أنّ حق الشعب اليهودي في أرض «إسرائيل» أبدي وغير قابل للمناقشة، ومرتبط بحقنا في الأمن والسلام. وأنّ لدولة «إسرائيل» الحق في السيادة على يهودا والسامرة وقطاع غزة، وحق المطالبة بها، وأن «إسرائيل» ستثير حقها هذا في الوقت المناسب، وستناضل من أجل تحقيقه». سئل بيغن في ما بعد عن احتمال ضمّ «إسرائيل» الضفة الغربية، أجاب: «يمكنك ضمّ ارض أجنبية، لكن لا يمكنك أن تضمّ بلادك. إنّ يهودا والسامرة جزء من أرض «إسرائيل» حيث ولدت الأمة»!
عندما خلف إسحق شامير بيغن في الحكم عام 1979، تعهّد بمواصلة «العمل المقدّس»، وهو إقامة المستوطنات في الضفة الغربية، مكرراً التأكيد «على أنّ الضفة الغربية ملك للشعب اليهودي». كان شامير عند وعده، حيث قام بأكبر نشاط استيطاني في فلسطين في ذلك الحين.
لم يتخلّ القادة الصهاينة عن هدفهم للاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة، وضمّهما إلى الكيان المحتلّ، إذ ينتظرون الفرصة المناسبة لتحقيق هذا الهدف.
لذلك رفض قادة «إسرائيل» بالمطلق، كلّ المبادرات الدولية السلمية التي تعمل على إيجاد حلّ للصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، دون الاعتراف بيهودية الدولة. لذلك رفضت «إسرائيل» بين عامي 1967 و1971، رفضاً تاماً مقترح تسوية للوسيط الأممي غونار يارينغ، الذي استند الى القرار 242، الصادر عن مجلس الأمن، القاضي بانسحاب «إسرائيل» إلى حدود ما قبل 5 حزيران1967. كما رفضت «إسرائيل» بالمطلق عام 1969، مشروع روجرز المستند أيضاً الى القرار 242، مع تسوية عادلة للاجئين الفلسطينيين، ورفضت أيضاً خطة كارتر الشاملة للسلام عام 1977، وخطة الأمير فهد للسلام عام 1981. أما خطة ريغن للسلام عام 1982، فقد رفضها بيغن فوراً قائلاً: «لا يوجد لدينا أيّ سبب للركوع. إنّ أحداً لن يعيّن لنا حدود إسرائيل».
في اليوم التالي للرفض، أعلنت «إسرائيل» عن خطة توطين مليون وأربعمئة ألف مستوطن خلال ثلاثين عاماً. وقال بيغن: «إنّ استيطاناً من هذا النوع هو حق إسرائيلي لا يمسّ، وجزء لا يتجزأ من أمننا القومي، ولذلك لن يكون هناك تجميد للاستيطان».
في عام 1982، رفضت «إسرائيل» خطة السلام التي تبناها الزعماء العرب في قمة فاس في المغرب، واعتبرتها بمثابة إعلان حرب مجدداً عليها. بعد ذلك توالى الرفض الإسرائيلي لخطط السلام، التي تقدمت بها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، وخطة بوش عام 1989 التي اعتبرها شامير عديمة الجدوى،
والمبادرة العربية للسلام في قمة بيروت عام 2002 التي رأى فيها أرييل شارون أنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
ما تقوم به «إسرائيل» اليوم من إبادة جماعيّة، ومجازر وحشية، وتطهير عرقي للفلسطينيين في قطاع غزة، ليس وليد الساعة، إنما هو سلوك إجراميّ متأصّل، تقرّه الأسفار، وتحثّ عليه، ما دفع بالصهاينة إلى تطبيقه دون هوادة بحق الشعب الفلسطيني، من خلال خمس موجات تطهير عرقي بين كانون الأول 1947 وتموز 1949، أسفرت عن قتل وتهجير قسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين، وتدمير وإزالة 566 قرية ومدينة فلسطينية تمّ توثيقها، واعترف بها صراحة مؤرّخون إسرائيليون جدد كـ ايلان پاپي وبني موريس. بعد كلّ ذلك، ألم يتيقن العالم، وبالذات القادة العرب الذين يعترفون بالكيان المحتلّ، ويهرولون للتطبيع مع دولة الإرهاب، انّ «إسرائيل لا تبحث عن السلام القائم على العدل، ولا تريده. وإنما تريد التوسّع وقضم المزيد من الأرض العربية! فمن هو المغفل الأحمق الذي يصدّق انّ عدوان «إسرائيل» الحالي حالياً، وإبادتها الجماعية لسكان غزة يستهدف فقط حركة حماس! إنّ حرب «إسرائيل» وجرائمها الهمجية، هي في الحقيقة حرب على كلّ الفلسطينيين دون استثناء، من أجل القضاء نهائياً على مقاومتهم، ووأد قضيتهم، وحملهم على ترك أرضهم لتحقيق ما لم يستطع الصهاينة تحقيقه عند إعلان دولتهم، وهو الاستيلاء على كامل فلسطين وما بعد فلسطين.
لا يجوز مطلقاً بعد الآن الترويج بحسن او سوء نية، بأنّ عدوان «إسرائيل» غايته فقط القضاء على حركة حماس، وكأنّ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني مرتبط فقط بحماس وليس بالشعب الفلسطيني وقضيته، وأنّ القضاء عليها ينهي قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويوفر الحقوق والاستقرار والسلام للفلسطينيين!
بعد حرب 1967 سئل موشي ديان عن حدود «إسرائيل» فقال: «حيث تطأ قدم الجندي الإسرائيلي الأرض، هي حدود «إسرائيل».
إذا كانت «إسرائيل» عازمة على تطهير غزة من سكانها، وضمّها اليها، فإنّ المقاومة الأسطورية الفلسطينية، عازمة ومُصرّة على تطهير فلسطين واقتلاع الاحتلال من جذوره، وهو أمر لا بدّ منه مهما طال الوقت، وعظمت التضحيات. الفلسطيني صاحب الأرض المستميت للدفاع عنها، ليس كالسارق الصهيوني الذي يريد الحفاظ على سرقته. فشتان ما بين إرادة اللصوص وإرادة أصحاب الحقوق.
هنا نتساءل بكلّ مرارة وعجب، أما آن الأوان بعد، للقادة العرب ليقروا بحقيقة دامغة، وهي أنّ المبادرات والخطط، والتسويات المؤقتة، والمساومات، وأنصاف الحلول لم تعد تجدي مع هذا العدو المحتلّ المتربص بالأمة كلها، وأنّ حقوق الفلسطينيين والعرب لا تُستعطى ولا تُستجدى من القوى الخارجية الداعمة لدولة الإرهاب العنصرية؟!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق