تقدير موقف عسكري للجولة الثانية من الحرب
ناصر قنديل
– استلزم الأمر خمسين يوماً وخمسة عشر ألف شهيد وتظاهرات هزّت شوارع العالم على مدى أيام متلاحقة، حتى سلّم الرئيس الأميركي جو بايدن وحليفه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بأن أهداف الحرب التي قرّرا معاً خوضها في غزة وتقاسما مهامها، غير واقعية، فلا اجتثاث حماس ممكن ولا الإفراج عن المحتجزين والأسرى بالقوة ممكن ايضاً، وانتقلا إلى أهداف جديدة هي إنهاء ملف الأسرى والمحتجزين والتخلص من ضغوطه بأقل كلفة ممكنة دون منح المقاومة فرص القول بأنها فرضت جدول أعمالها. والقضيّة هنا هي رفض معادلة الكل مقابل الكل، أي الإفراج بالتوازي عن المحتجزين والأسرى لدى المقاومة مقابل تحرير كامل للأسرى في سجون الاحتلال، ثم العودة إلى إدارة الحرب بهدوء، بوتيرة منخفضة قابلة للاستمرار لوقت طويل دون التعرّض لضغوط ودون الوقوع في معضلة نفاد الوقت، حتى يتمّ إنضاج مسار سياسي أمني يضمن احتواء حماس ضمن نظام إقليمي فلسطيني يعطل قدرتها كمقاومة.
– رد المقاومة على الخطة الأميركية الإسرائيلية كان بربط الإفراج عن الأسرى الذين تحتجزهم بصفقة شاملة تضمن الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين، وتضمن وقف إطلاق نار نهائيّ وشامل، وانسحاب قوات الاحتلال من المناطق التي توغّلت فيها داخل قطاع غزة، وفك الحصار الذي يفرض على القطاع. ومعادلة المقاومة هو أن التكلفة العالية لجولة حرب لا يمكن تكرار دفعها عدة مرات وفق ما تريده الروزنامة الأميركية الإسرائيلية، وأن وجود الأسرى لديها وتسبب العملية الحربية القائمة على استهداف المنشآت المدنية والمناطق السكنية بتعريض حياة هؤلاء للخطر هو ورقة قوة بيدها لإنتاج حل نهائيّ لن تفرّط به، والمقاومة تعلم أن هذا السقف ليس سهلاً على الأميركي والإسرائيلي لأنه يعني إقراره بالهزيمة الشاملة، لكنها تعلم ان الخيار في هذه الحرب هو في تحديد من هو الطرف الذي سوف يخرج مهزوماً، حيث لا مكان لتسوية تضيع فيها صورة المنتصر والمهزوم، بعد السابع من تشرين الأول. والكيان ومن خلفه أميركا يعرفان استحالة الاستقرار في حال الكيان دون نصر يعادل هزيمة السابع من تشرين الأول، والمقاومة لن تسمح بحرب تنتهي بأقلّ من تكريس نتائج نصر السابع من تشرين الأول.
– هذا يعني أن الجولة الثانية لا تقلّ قسوة عن الجولة الأولى، إن لم تكن أشدّ وأقسى بقياس الأهداف. وقد ظهر من الأيام الثلاثة التي مرّت أن خطة الحرب هي الاندفاع نحو جنوب غزة انطلاقاً من خان يونس، لكن دون حسم الوضع في الشمال، بل بمواصلة العمل على تقسيم غزة إلى مربعات صغيرة تصل إلى أكثر من 200 مربع موزّعة على 17 منطقة، تضمنتها الخريطة التي نشرها جيش الاحتلال تحت عنوان دليل سكان غزة للتعرّف على مناطق القتال والمناطق الآمنة، ولكن الخريطة تكشف خطة الحرب التي شهدنا نموذجاً منها في الجولة الأولى من الحرب التي امتدت خمسين يوماً، وقامت على تقطيع غزة إلى ثلاثة أقسام، شمال ووسط وجنوب، وقد تمّ توسيعها الآن، لتصبح 17 منطقة، يمكن التعرّف فيها على المناطق السكنية التي تحيط بها مناطق زراعية أو رملية على الشاطئ، وتبدو الخطة ببساطة التوغل في المناطق المكشوفة والمفتوحة الى أبعد مدى ممكن في التجمعات السكنية مع الحفاظ على السيطرة على طريقين طوليين يشقّان غزة من الشمال إلى الجنوب هما شارع صلاح الدين، وشارع الرشيد، والسيطرة تكون بالنار حيث يتعذر التوغل، أما التجمعات السكنية فهي ميادين القصف الناري للتدمير والقتل، والحديث عن تجمعات مشتعلة وأخرى آمنة ليس إلا بتناوب التوقيت بينها.
– عملياً سوف ينتشر جيش الاحتلال على مساحات مفتوحة تعادل ثلث مساحة قطاع غزة، خصوصاً من الجهة الشرقيّة، مثل جحر الديك قرب مدينة غزة والقرارة قرب مدينة خان يونس، وسوف يكون عليها أن تنتشر في مناطق طوليّة بلا عمق تشبه توغلها في مدينة أطراف غزة عبر التمركز في شوارع دون السيطرة الكاملة على الأحياء السكنية. وهذا يعني أنها سوف تكون عرضة للقصف في المناطق المفتوحة بمدافع الهاون خصوصاً، وسوف تكون عرضة لهجمات بالقذائف الصاروخية والرشاشات في المناطق الواقعة على أطراف المدن وداخلها، وهذا النوع من الهجمات الذي شهدته مواجهات الأيام الثلاثة الأولى من الجولة الثانية من الحرب، ما يعني عملياً تكرار نتائج الجولة الأولى لكن في زمن أقل، ليصل الأميركي والإسرائيلي الى التسليم بالفشل، لكن المعضلة تبدو في كيفية تجرّع القيادة السياسية والعسكرية في كيان الاحتلال الثمن المطلوب، وما هي العناصر التي يمكن أن تسهم في اختصار مدة الجولة الثانية؟