عالم متعدّد الأقطاب يتشكّل على أنقاض الأحادية القطبيّة بقيادة القيصر فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين
} د. أحمد الزين
لم تعد الكرة الأرضيّة مكاناً فسيحاً يصعب إحصاء معالمه أو القبض على مفاصله، فهي مع انطلاق الثورة التكنولوجيّة وما رافقها من عولمة باتت بمثابة قرية صغيرة متّصلة في العلم، والجغرافيا، والقضايا السياسيّة، والاقتصاديّة، والعسكريّة، ولربّما كان من حسن حظّ أميركا أن تزامنت ثورة المعلومات مع انهيار الاتّحاد السوفياتي فباتت إلى جانب كونها قطباً أوحد في العالم، تمتلك قدرات تكنولوجيّة، وعسكريّة ربّما لم يتح لقوّة على وجه الأرض امتلاكها، وقد أدّى ذلك إلى ما شاهدناه جميعاً من انطلاق لحروب استطاعت فيها أميركا أن تفرض معادلاتها، وقيَمها فمن أفغانستان إلى العراق إلى سورية ولبنان وصولاً إلى أوكرانيا إلى غزّة وما بعد غزّة، حتّى صار من المسلّمات أنّ نظام القطب الواحد قد جلب للكرة الأرضيّة الكثير من عدم التوازن والظّلم اللامتناهي، ولعلّ ما يحصل في غزّة اليوم هو خير دليل على ذلك، إذ يشاهد العالم بأمّ العين ومن خلال الشّاشات المفتوحة على مصراعيها مشاهد المجازر بحقّ الشّعب الفلسطيني خدمة لأجندات وافقت عليها أميركا فأسكتت العالم كلّه، ولعلّها لم تكن لتتمادى إلى هذا الحدّ لو كانت هنالك قوّة أو قوى موازية لها، ما كان لها ذلك لو كان العالم متعدّد الأقطاب الّذي تبشّرنا الأحداث بقرب نشوئه قد اشتدّ عوده وقويت دعائمه.
واقع الحال أنّ الكرة الأرضيّة تمرّ بمخاض صعب، وأنّ مولودها الجديد سيكون انتهاء ومضة القطب الأوحد، ونقول ومضة لأنّ فترة هذه الأحادية قصيرة جدّاً إذا تمّ قياسها بمقياس التاريخ، وهنالك مؤشّرات كثيرة على ذلك، ربّما كان من بين هذه المؤشّرات فشل «إسرائيل» في تحقيق أهدافها من حرب تمّوز 2006 على لبنان، ومنها كذلك ما يحصل الآن في أوكرانيا من فشل للمشروع الغربي في محاصرة روسيا، والاستقبال الّذي حظي به الرّئيس الروسي فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، الأربعاء الماضي، في أحد معاقل أميركا في الشّرق الأوسط ونعني به الخليج وخروجه مع السّعوديّة ببيان مشترك حول حرب غزّة التي فقدت فيها أميركا صفة الوسيط لتتحوّل إلى طرف مشارك.
ومن المؤشّرات الهامّة على ذلك أيضاً خروج بعض الآراء الوازنة في أميركا تقول بأفول نجمها كقطب أوحد، وبانتهاء لحظة الأحادية القطبيّة، وأنّ عليها أن تسمح بنشوء عالم متعدّد الأقطاب.
أضف إلى ذلك ما حصل مع بداية عهد أوباما وما رافق هذا العهد من أزمة مالية ذرّت بقرنها عام 2008 لتبثّ المخاوف من تلاشي الدّور المهيمن لأميركا، وقد استمرّت هذه المخاوف خلال إدارة ترامب والإدارة الحاليّة بقيادة بايدن، ولتبلغ ذروتها مع انطلاق العمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا
في هذه الحرب فرضت الولايات المتّحدة رؤيتها لما يحصل على قسم كبير من العالم، وذلك تحت تأثير الضغط والعقوبات فانضمّت إليها ما يزيد عن الثلاثين دولة في عمليّة تسليح أوكرانيا ومعاقبة روسيا.
لكنّ اللافت أنّ كثيراً من الدّول التي صوّتت ضدّ روسيا في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة لم تقم في ما بعد بأيّ إجراء معادٍ لها، فلم تلتزم بتسليح أوكرانيا، ولم تنضمّ للعقوبات ضدّ روسيا، مختارة الحياد رغم تصويتها في مجلس الأمن لصالح التّسليح والعقوبات، ولعلّ في ذلك ما يشير إلى قدرة هذه الدّول على التّفلّت من القبضة الأميركيّة والالتفاف على قراراتها، ولعلّه كذلك بعض من إرهاصات وعي هذه الدّول لأهمّيّة الابتعاد عن القبضة الأميركيّة مع عدم قدرتها على اتّخاذ مواقف واضحة في ذلك لإدراكها بأنّ العالم متعدّد الأقطاب لم يتبلور وأنّ عالم اليوم واقع في منزلة بين المنزلتين فلا الولايات المتّحدة قوّة كاملة الهيمنة كما كانت في العقود الثلاثة المنصرمة، ولا قوّتان عظميان كما كان الأمر عليه قبل انهيار الاتّحاد السوفياتي.
هكذا لاحظنا حينها أنّ دولاً عدّة استطاعت أن تحافظ على حيادها من دون أن يتمّ فرض عقوبات عليها، وقد بيّن ذلك أنّ لسطوة أميركا حدوداً تقف عندها.
كذلك فإنّ بعض الدّول الكبرى استطاعت أن تتحدّى العقوبات الأميركيّة ولعلّ خير نموذج لذلك هو الصين التي تقيم علاقات تجاريّة مع غالبيّة دول الجنوب وهي بالانطلاق من ذلك قادرة على تحدّي المطالب السياسيّة للولايات المتّحدة، وكذلك الهند التي شكّلت مثالاً صارخاً على رفض الإملاءات الأميركيّة حينما رفضت تسليح أوكرانيا ومعاقبة روسيا على الرّغم من العلاقات التجاريّة المتينة التي تربطها بالولايات المتحدة.
هذا ويشهد العالم انزياحاً للثقل الاقتصادي بعيداً عن المحيط الأطلسي نحو منطقة آسيا والمحيط الهادي ولعلّ مردّ ذلك يعود إلى صعود عملاقين اقتصاديين هما الصين والهند، وإلى مساهمة استثمارات الصين في مبادرة الحزام والطّريق في نشوء اقتصادات فتيّة، والكلّ يعلم أنّ القوّة الاقتصادية تترافق مع النفوذ السياسي وبالتالي فإنّ دول بريكس التي تشكّل الصين والهند وروسيا جزءاً منها، والتي تمثّل ثقلاً اقتصاديّاً عالميّاً لا بدّ لها أن توازي هذا الثقل الاقتصادي بثقل سياسي لتأخذ مكانها على الخريطة السياسيّة العالميّة.
لطالما استغلّ الغرب المهيمن تحت قيادة الولايات المتّحدة الدّول النامية بأساليب متعدّدة تبدأ بالقروض المقيّدة، ولا تنتهي بحرب المعلومات وما بين هذا وذاك تدخّلات سياسيّة يتمّ من خلالها فرض السياسات والقيم المطلوبة على هذه الدّول الّتي بات تغيير النّظام العالمي القائم مطلباً مشروعاً لها، خاصّة أنّه ما كان لهذا النّظام الغربي العالمي أن ينهض لو لم يقم باستغلال دول الجنوب ونهب مواردها، وإزاء كلّ ذلك وفي المقابل تسعى دول البريكس إلى الاستفادة من قوّتها الاقتصاديّة للقيام بالإصلاحات الرّامية إلى جعل العلاقات الدّوليّة أكثر ديمقراطية ومساواة وعدالة.
من هنا فإنّ نجاح مجموعة بريكس في تحقيق أهدافها الإصلاحيّة للنّظام العالمي سيشكّل منفذاً وأملا متجدّداً لدول الجنوب، صحيح أنّ ذلك قد يستغرق وقتا لكنّ وعي هذه الدّول لمهمّة دول البريكس الإنسانيّة يشكّل حافزاً لها كي تكون جزءاً من حركة عالميّة تزيح الولايات المتّحدة عن عرش العالم وتفسح في المجال أمام تبلور نظام عالمي جديد ربّما يكون أكثر عدالة، وأقلّ استغلالاً للدّول الضّعيفة.
لطالما كان العالم متعدّد الأقطاب، تلك هي القاعدة، وبالتالي فإنّ ومضة الأحادية القطبية التي انطلقت شرارتها مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 لا تشكّل قاعدة تاريخيّة يبنى عليها.
إنّ مصلحة الجنوب العالمي في عودة العلاقات الدّوليّة إلى نموذجها الطبيعي متعدّد الأقطاب واضحة ولا شكّ فيها وقد أدّت الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة إلى التّعجيل بالتّحوّل العالمي نحو هذه التّعدّديّة القطبيّة.
ولعلّ الأميركيّين يصلون قريباً إلى المرحلة التي يدركون فيها أنّ هذا الشّذوذ التّاريخي قد انتهى وأنّ التّعدّديّة القطبيّة هي البديل الذي يمكنه أن يعيد التّوازن إلى العلاقات الدّوليّة، وفي ظلّ هذه الحروب المتنقّلة التي تحرق الأرض والزّرع والقلوب فإنّ أنظار الشّعوب شاخصة إلى المستقبل بخوف كبير لا يبدّده سوى الأمل بانزياح الهيمنة وبلورة عالم جديد من يدري لعلّه يكون صالحاً للحياة.
هل نرى خريطة نفوذ جديدة في العالم بقيادة القيصر فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين؟