نهاية حرب غزة: السيناريوات المحتملة
} د. علي أكرم زعيتر
يتساءل كثيرون حول مآلات حرب غزة بعد مرور أكثر من شهرين على انطلاقها في السابع من تشرين الأول المنصرم. بعضهم يتصوّر، أنّ إعلان «إسرائيل» المتكرّر عن إحراز تقدّم ميداني في شمال ووسط القطاع دليل على تقهقر حماس ونجاعة الإجراءات الإسرائيلية المتبعة.
في الواقع، ليس كلّ ما تروّج له الدعاية الإسرائيلية صحيحاً بالضرورة، فقد أثبتت التجارب الميدانية أن ”إسرائيل“ أبعد ما تكون عن إحراز النصر. هناك على الأقل مؤشران يدلان على أنّ حماس ما زالت ممسكة بزمام الأمور، ولمَّا تضعف بعد:
أ_ استعمال أميركا حق النقض الفيتو في مجلس الأمن للمرة الثانية، فلو كانت حماس في وضع حرج لما اضطرت أميركا لاستعمال حق النقض الفيتو للمرة الثانية منذ انطلاق العدوان على غزة في 8 تشرين الأول 2023.
إنّ اضطرار الولايات المتحدة لاستعمال حق النقض يعني أنّ «إسرائيل» لم تنجز المهمة الموكلة إليها بعد وهي إضعاف حماس والقضاء عليها، وبالتالي فهي بحاجة إلى مزيد من الوقت ريثما تنجز المطلوب.
بـ_ إطلاق الصواريخ من شمال قطاع غزة، فقد أكدت الفيديوات التي بثتها حركة حماس مؤخراً أنّ منصات إطلاق الصواريخ في شمال القطاع ما زالت تعمل بالفاعلية ذاتها، علماً أنّ شمال القطاع ــ وفق الدعاية الإسرائيلية ــ يُفترض به أن يكون بيد قوات الاحتلال الآن.
إنّ نجاح القوات الإسرائيلية في اجتياز مناطق شمال ووسط القطاع لا يعني أنّ هذه المناطق باتت إسرائيلية خالصة. فالمقاومة الفلسطينية لديها القدرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ساعة تشاء، وذلك بفضل التكتيكات العسكرية التي تعتمدها، والتي تقوم بمجملها على مبدأ حرب العصابات.
هذا النوع من الحروب لا يقيم وزناً لفكرة الاحتفاظ بالأرض حتى الرمق الأخير. قد يوهمك من يعتمد تكتيكات حرب العصابات أنه اضطر، تحت وطأة الضربات التي يتعرّض لها للانسحاب، مخلفاً وراءه أميالاً وأميالاً واسعة، لم يعد بوسعه الاحتفاظ بها. في الواقع، هذه الفكرة ليست خاطئة تماماً، فمن يجيد حرب العصابات قد يضطر في أحيان كثيرة إلى التخلي عن بعض البقع الجغرافية، ولكنه غالباً ما يؤمّن قبل انسحابه طرقاً بديلة للعودة إليها متى ما استدعت الحاجة، وهذا بالضبط ما حدث في شمال قطاع غزة، فالمقاومة الفلسلطينية على ما يبدو اضطرت تحت وطأة القصف الجوي والزحف البري إلى إخلاء بعض الأحياء الشمالية، ولكنها سرعان ما عادت لتظهر فيها من جديد، وقد دلت على ذلك صليات الصواريخ التي انطلقت من مواضع كنا نتصوّر أنها باتت تحت سيطرة قوات الاحتلال التامة. في الواقع، هناك احتمالان، يفسّران ذلك:
أ_ إما أن يكون مجاهدو حماس قد عمدوا إلى التخفي في الأنفاق المنتشرة هناك، ما يعني أنّ «إسرائيل» سيطرت على سطح الأرض، فيما بقي باطن الأرض خارجاً عن سيطرتها.
بـ_ وإما أن يكون مجاهدو الحركة نجحوا في العودة عبر طرق التفافية، كانوا قد أعدّوها مسبقاً، أو حتى عبر أنفاق طويلة تصل ما بين شمال القطاع ووسطه وجنوبه.
إنّ كثيرين ممن يسألون حول مآل العدوان على غزة يدركون أنّ الإجابة على سؤال من هذا النوع في ظلّ الضبابية التي تعتري المشهد العام حالياً يكاد يكون مهمة صعبة، إنْ لم تكن مستحيلة. هناك مستجدات كثيرة لم نعهدها في الحروب الماضية التي خاضتها إسرائيل في مواجهة العرب.
إنّ ثلاث حروب كبرى خاضتها «إسرائيل» ضد العرب، في أعوام الـ ٤٨ والـ ٦٧ والـ ٧٣، يضاف إليها اجتياح بيروت في الـ ٨٢ لم تستغرق إلا بضعة أيام، في حين تخطت حرب غزة الحالية الشهرين، ولمَّا تزل غير واضحة الأفق، فما عدا مما بدا حتى غيرت «إسرائيل» من عقيدتها القتالية؟
«إسرائيل» التي كانت تحرص دائماً على خوض حروب سريعة وخاطفة، ها هي تمنح جيشها إذناً مفتوحاً تخطى الشهرين، ومن قبلُ منحته إذناً مشابهاً تخطى الشهر في عدوان تموز على لبنان عام ٢٠٠٦، فهل طبيعة الحرب التي تخوضها حالياً هي ما أجبرتها على كسر عقيدتها القتالية؟
بكلمة واحدة نقول، أي نعم، يبدو واضحاً أنّ السر يكمن في طبيعة العدو الذي تواجهه هذه المرة، وفي طبيعة الحرب التي فرضها عليها. لقد نجحت المقاومتان اللبنانية والفلسطينية في تخليق نوع هجين من الحروب غير التقليدية، اصطلح على تسميتها بحرب العصابات. هذا النوع من الحروب، بالتحديد، لا تريده «إسرائيل»، وهي تتحاشى خوضه بكلّ الوسائل، لأنه مكلف ويخضع لمعايير وشروط العدو، فتخيّل نفسك وأنت مقبل على مواجهة عدوك في حلبة صراع حددها هو مسبقاً، ووضع موازينها وقوانينها، وفرض توقيتها الذي يناسبه! لا غرو من أنك ستعاني الأمرين.
في الماضي، كانت «إسرائيل» هي من تحدّد ساعة الصفر، فتثير نقعاً ساعة تشاء، وغالباً ما كانت تخوض حروبها ضد جيوش كلاسيكية، ولأنها كانت تمتلك زمام الأمور نظراً لتفوقها الكمي والنوعي، فقد كانت بارعة في حسم المعارك. أما اليوم فقد اختلف الأمر. لم يعد بمقدورها حسم معاركها في أيام معدودة كما كان يحصل في الماضي، لذا فهي باتت مضطرة لتغيير عقيدتها القتالية.
الحرب التي تخوضها إسرائيل اليوم، محكومة بثلاثة سيناريوات، وفق أكثر التحليلات ترجيحاً:
١_ أن تنتهي لصالح إسرائيل، فيسقط حكم حماس في غزة، وتنتقل الوصاية على القطاع إلى السلطة الفلسطينية، أو أي جهة فلسطينية أخرى غير مناوئة لواشنطن وتل أبيب.
٢_ أن تكون الغلبة فيها لحركة حماس وفصائل المقاومة، وما يستتبع ذلك من إتمام صفقة تبادل الأسرى وفق الشروط التي تمليها حماس وبقية الفصائل.
٣_ أن تنتهي المهلة الزمنية التي حددتها إدارة بايدن لنتنياهو، فتضطر الولايات المتحدة على إثر ذلك إلى الضغط على إسرائيل للقبول بوقف دائم للحرب، وبذا تضع الحرب أوزارها.
في تصريح له يوم الثلاثاء الفائت، قال رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، إنّ حكومته لن تسمح بقيام حماستان أو فتحستان في غزة. هذا يعني أن سيناريو تولي السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور في غزة بعد حماس مستبعد، أو هذا على الأقل ما يحاول أن يوحيه لنا نتنياهو. على أي حال، ما يقوله نتنياهو ليس محط ثقة بالنسبة لنا، فقادة كيان الاحتلال عودونا على إظهار خلاف ما يضمرونه.
ففي تصريح لوكالة بلومبرغ الأميركية، أعلن رئيس وزراء السلطة الفلسطينية محمد اشتية من مقره في رام الله عدم معارضة السلطة الفلسطينية لتولي مقاليد الحكم في غزة بعد إسقاط حكم حماس. وقد نقلت صحيفة «التايمز» البريطانية في هذا السياق خبراً مفاده، أنّ عناصر من المخابرات البريطانية حضروا إلى الضفة الغربية لتأهيل قوات الشرطة الفلسطينية، تمهيداً لنشرها في غزة بعد انتهاء المعركة.
وسواء صدق نتنياهو أو صحيفة «التايمز»، فإن كِلا الزعميْن فند، لأنّ سيناريو هزيمة حماس وسقوط حكمها يكاد يكون من سابع المستحيلات. إنّ الملاحم التي تخوضها حماس وبقية فصائل المقاومة في غزة منعت إسرائيل حتى اللحظة من إحراز أي تقدّم ميداني ملموس. فما بالك بسيناريو السقوط التامّ الذي يحلم به نتنياهو وبعض الدول المتواطئة معه؟ من المبكر الحديث عن سقوط وشيك لحماس. قد يستغرق الأمر عدة سنوات، وربما لا يحدث أبداً. لا نقول ذلك التزاماً منا بمبدأ الانحياز للمقاومة، وإنما بناءً على مجريات الأمور في أرض المعركة.
إنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً برأينا، هو أن تضطر إدارة بايدن تحت وقع الهزائم المتتالية لجيش الاحتلال، وأمام الصمود الأسطوري للمقاومة، وجراء تزايد نقمة المجتمع الدولي على إسرائيل بفعل ممارساتها الوحشية ومجازرها التي يندى لها جبين البشرية، إلى الضغط على حكومة نتنياهو من أجل وقف حربها الجائرة على غزة.
إنّ التراشق الكلامي الذي طفا مؤخراً إلى السطح، أظهر حجم الخلاف بين نتنياهو وبايدن، وهو ما يمكن أن يُترجَم مستقبلاً ضغطاً أميركياً مباشراً، قد يفضي بنتنياهو إلى الامتثال لأوامر البيت الأبيض.
لقد قالها بايدن صراحةً: إن إسرائيل بدأت تفقد التعاطف الدولي، وإن على نتنياهو أن يجري تعديلات وزارية في حكومته، أي بمعنى، عليه أن يطيح بالوزراء المتطرفين من حكومته، لأنهم يضغطون باتجاه استمرار القتال، وهذا لا يصب في مصلحة كيانه. هذا التصريح الفريد من نوعه لبايدن قابله نتنياهو بالتأكيد على وجود تباين كبير بين حكومته وإدارة بايدن، مجدداً التمسك بموقفه الرافض لوقف القتال الفوري، تفادياً ــ وفق تعبيره ــ لتكرار أخطاء الماضي، بما في ذلك ما حدث في أوسلو.
إن من شأن تصريحات من هذا النوع، أن تعطينا فكرة وافية حول مآل حرب غزة، إذ يبدو واضحاً أن الأمور ذاهبة باتجاه تحقق السيناريوين الثاني والثالث مجتمعين.. مزيد من الضغوط الأميركية على الجانب الإسرائيلي، يصاحبه المزيد من الإخفاقات الميدانية لجيش الاحتلال، يتلوه وقف نهائي للحرب.