مستقبل اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية… بين الانفتاح على الصّين وخشية الشركات
إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نمواً كبيراً في التجارة العالمية، كما ساهمت في خلق إطارٍ تجاريّ عالميّ مبنيّ على أسس الاقتصاد المفتوح. وكانت الولايات المتحدة الأميركية في طليعة الدول التي حملت شعارات التغيير، علماً أن اعتمادها على التجارة بلغ أدنى مستوياته قياساً على باقي الدول.
يتعثر جدول أعمال التجارة العالمية منذ بداية القرن الحادي والعشرين، ما حدا بالولايات المتحدة إلى التحوّل إلى اتفاقيات التجارة الحرّة الإقليمية والثنائية اتفاقيات التجارة العالمية . وبعد نجاح تمرير اتفاقيات التجارة الحرة مع كلّ من كولومبيا، بنما، وكوريا الجنوبية، تُركز إدارة الرئيس أوباما حالياً على استكمال الصفقتين التجاريتين الرائدتين: شراكة آسيا ومحورها المحيط الأطلسي «TPP»، والاستثمار عبر الأطلسي مع الاتحاد الأوروبي «TTPI».
ومع انتشار العولمة، ازدادت الحاجة إلى تحرّر التجارة أكثر فأكثر. ويجادل كثيرون في الحركة العمالية الأميركية، وكذلك غيرهم من الاقتصاديين في أن الاتفاقيات التجارية ـ بشكلها الحالي ـ تلحق الأذيّة بالعمّال، تفكّك قاعدة التصنيع في الولايات المتحدة الأميركية، وتفاقم مشكلة عدم المساواة في الدخل. كما تمّت الدعوة إلى ضرورة خلق فرص للعمل من خلال فتح أسواق جديدة للصادرات الأميركية وجعل التنافس على الشركات الأجنبية أسهل بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ما هي إذاً سياسة الولايات المتحدة التجارية؟
تطورت مؤسسات السياسة التجارية العالمية بشكلٍ دراماتيكيّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وفي أعقاب اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944، التي أنشأت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والاتفاق العام في شأن التعريفات الجمركية والتجارية « GATT»التي وُقّعت من قبل ثلاث وعشرين دولة عام 1947. وبحلول عام 1986، توسعت عضوية الـ«GATT» لتشمل 123 بلداً، التزمت جميعها بمبادئ خفض الرسوم الجمركية والاقتصادات المفتوحة والتجارة الحرّة.
انخفضت على مدى العقود الأربعة الماضية، التعريفات الجمركية على الواردات العالمية للسلع بشكل حادّ، من متوسط قدره أكثر من 30 في المئة إلى أقلّ من 5 في المئة. ثم ما لبث الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ريغان أن أطلق منظمة التجارة العالمية «WTO»، التي وضعت لمساتها الأخيرة في عهد الرئيس الأسبق بيل كلنتون عام 1994. وكانت فكرة تنظيم التجارة العاليمة قد اقتُرحت للمرة الأولى خلال مؤتمر «بريتون وودز». ومع ذلك، فشل مجلس الشيوخ الأميركي في التصديق على مشروع الاقتراح لعقود من الزمن، أي إلى حين ظهور «منظمة التجارة العالمية WTO».
ركز صنّاع السياسة الأميركيين على مواجهة عملية التجارة العالمية المتوقفة، باستكمال مشاريع الصفقات التجارية والاستثمارية الإقليمية والثنائية على البدل من ذلك.
كتبت مجلّة «Council on Foreign Relations»:
أُنشئت منظمة التجارة العالمية لمعالجة القيود المتصوّرة على نظام التعريفات التجارية والجمركية «GATT». نمت التجارة العالمية وازدادت تعقيداً منذ أربعينات القرن الماضي، وتقلّص التركيز على البضائع في المناطق الرئيسية مثل تجارة الخدمات، الزراعة، الملكية الفكرية والاستثمار عبر الحدود. ومع ذلك، فإن الجولة الأخيرة من المفاوضات ـ التي انطلقت في الدوحة في قطر عام 2001، والتي أُطلق عليها اسم «جدول أعمال التنمية» بسبب تركيزها على مواضيع ذي أهمية خاصة لأفقر البلدان ـ فشلت حتى الآن في تحقيق اتفاق نهائيّ على رغم مرور أكثر من عشر سنوات من المحادثات. وكانت السياسة الزراعية نقطة الخلاف الرئيسة مع عدد من الدول النامية الكبيرة كالهند والصين، التي تسعى إلى المحافظة على المرونة في فرض الرسوم الجمركية على الواردات ـ التي تسمى «حماية الواجبات» ـ والضغط من أجل خفض الدعم الزراعي في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.
اتفاقيات التجارة الحرّة الحالية
عمل صنّاع السياسة الأميركيين في المقابل على مواجهة تعثّر مسار منظمة التجارة العالمية «WTO» من خلال التركيز على إتمام الصفقات التجارية والاستثمارية الإقليمية والثنائية الأقلّ أهمية، كمثل اتفاق التجارة الحرّة في أميركا الشمالية «NAFTA» عام 1994، الذي دمج الاقتصاد الأميركي مع الكندي والمكسيكي. وإضافة إلى الصفقات الثنائية مع كولومبيا، بنما وكوريا الجنوبية، أبرمت الولايات المتحدة الأميركيا اتفاقيات تجارية حرّة مع عشرين دولة أخرى. وكانت إدارة الرئيس أوباما قد سعت إلى تعزيز المصالح التجارية الأميركية من خلال المبادرة الوطنية للتصدير عام 2010، وهي مجموعة من الدعوات التجارية وتمويل الصادرات، وكذلك اثنتين من مفاوضات الصفقات العالقة: الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تركز على آسيا والشراكة بين الولايات المتحدة «TPP»، والشراكة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الأطلسي للتجارة والاستثمار «TTPI».
لكن ما هي الـ«TPP» و«TTPI»؟
إن الـ«TPP» و«TTPI» صفقات إقليمية ضخمة تركز على ما يُسمى بـ«الجيل القادم» من قضايا التجارة كالزراعة، الخدمات، الملكية الفكرية، وقضايا «وراء الحدود» من التحرير على المستوى المحلي. بدأت مفاضات الـ«TPP» الآسيوية عام 2001 مع محادثات استكشافية بين مجموعة صغيرة من البلدان المطلّة على المحيط الهادئ، وأعلنت إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش آنذاك عن نيتها الانضمام إلى المفاوضات عام 2008. وسارت إدارة الرئيس أوباما على النهج عينه، تماشياً مع محور آسيا الاستراتيجية، التي تدفع قدماً في هذه المبادرة، وبحلول عام 2015، فإن الـ«TPP» تمدّدت وتوسعت لتشمل اثني عشر بلداً ـ بما فيها اليابان، غير أنها عمدت إلى إقصاء الصين بعيداً.
تمثل دول الـ«TPP» 44 في المئة من إجمالي الصادرات الأميركية و85 في المئة من مجموع الصادرات الزراعية. وبما أن التعريفات التقليدية منخفضة فعلاً، فإن الـ«TPP»، تركز على مجموعة من الإصلاحات التي تشمل تحرير القطاعات المحمية، تبسيط التنظيمات الجمركية، تعزيز حماية الملكيات الفكرية، تعزيز القوانين التجارية التنافسية والشفافة، وتطبيق معايير العمل والبيئة. والهدف المعلن من كلّ ذلك، خلق منطقة اقتصادية متكاملة ووضع قواعد ثابتة لنموّ غير مسبوق من الاستثمارات العالمية. وفيما ارتفعت التجارة العالمية للبضائع من 6 تريليون إلى 19 تريليون دولار بين 1985 و2009، زادت ـ في الفترة عينها ـ تدفقات رأس المال العالمي أكثر من أربعة أضعاف، أي من 1.1 تريليون دولار إلى 5.2 تريليون دولار سنوياً.
وبالمثل، تسعى مفاوضات الـ«TTIP» إلى تحقيق أضخم تماسك اقتصادي عالميّ، بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والذي انطلق بشكل جدّيّ عام 2013، فتركز مفاوضات الـ«TTIP» على تحسين التعاون التنظيمي بين الجانبين. ويرى أنصار هذا التوجه أن هذا من شأنه تقليل تكاليف الشركات، وبالتالي تعزيز النمو وانخفاض أسعار المستهلك، فضلاً عن ضمان المعاملة المتساوية للمستثمرين.
وبينما تجري المفاوضات بطريقة سرية، حيث معظم التفاصيل لا تزال غير محدّدة، تواجه هاتين الصفقتين عقبات سياسية كبيرة تكافح اليابان للتغلّب على تأثير اللوبي الزراعي القوي، بينما يشكّك عدد من الأوروبيين بقضية السماح بتعديل المحاصيل الزراعية وراثياً «GMO» أو التراخي بوضع القواعد على العلامات الغذائية.
دور الكونغرس
تتفاوض ممثلة التجارة العالمية «USTR»، وهي جزء من الكتاب التنفيذي للرئيس، على الاتفاقيات، غير أن الدستور يمنح هذا الفرع السلطة الشريعية النهائية على التجارة الخارجية. تمّ تمرير بعض التفاقيات التجارة بعد الحرب مع هيئة ترويج التجارة « TPA»، والتي سمّيت بـ«الطريق السريعة» بسبب موافقة الكونغرس على الصفقات التجارية من دون أي تعديلات. ومن المفترض تجديد عقود الـ«TPA» التي انتهت صلاحيتها عام 2007 والا فإن الـ«TPP» و«TTIP» مهدّدتان بالانهيار.
توترت مسألة الإجماع الحزبي في السنوات الأخيرة، ما أدّى إلى ازدياد المعارضة من جانب الكونغرس. فالتراجع الحادّ في وظائف المصانع الأميركية، والذي ترافق مع صعود شركات «الخارج» في البلدان ذات الأجور المنخفضة والعمالة الضعيفة والمعايير البيئية المتدنيّة، أدّى بالبعض إلى التأكيد على أن انفتاح الولايات المتحدة على العولمة قد ذهب إلى البعيد البعيد. ولهذه الأسباب تحديداً، رفض مجلس الشيوخ السابق الذي سيطر عليه الديمقراطيون إعادة النظر في تشريعات الـ«TPA» بعد انتهاء صلاحياتها عام 2007.
نمت الشكوك أيضاً بين الجمهوريين، الذين يسيطرون على الكونغرس منذ تشرين الثاني عام 2014. والذين اعتادوا دعم جدول أعمال الولايات المتحدة التجاري، فيما سعى عدد من المحافظين إلى التصويت ضدّ التجديد لـ«TPA». وقد رأى البعض أن منح الرئيس صلاحيات «المسار السريع»، أمرٌ غير دستوريّ، بينما يؤكد آخرون على مخاوف بعض أعضاء الحزب الديمقراطي من أن الصفقات التجارية من شأنها تمييع سيادة الولايات المتحدة عبر تجاوز التنظيمات المحلية. كذلك، فإن مجموعة من المشرّعين البارزين أكدت أنها لن تدعم الـ«TPA» ما لم تُعالج اتفاقيات التجارة مسألة التلاعب بالعملة، وهذه ممارسة في الدول التي تتعمّد تخفيض قيمة عملتها بهدف الاستفادة من مزايا التصدير.
وهكذا، فإن النتيجة النهائية ما زالت غير واضحة المعالم. ويقول إدوارد آلدن، وهو زميل في مجلس العلاقات الدولية ومستشار العلاقات الخارجية أن هذا قد يكون عائقاً كبيراً أمام مفاوضات مثمرة محتملة مع عدد من الدول المعنية. ويؤكد آلدن أنّ «القلق عند الحكومات الأجنبية هو أنها غالباً ما تضعهم في خانة التنازلات السياسية الصعبة، ثمّ يعمد الأميركيون إلى تغيير قواعد اللعب بطريقة أو بأخرى».
الصفقات والأهداف السياسية الخارجية
لطالما ركّزت إدارة أوباما على أن كلّاً من الـ«TPP» و«TTIP»، النقطة الارتكازية في دفع عجلة قيادة أميركا عالمياً، وضمان تصدّرها لسوق دولية قائمة على قيم الانفتاح والشفافية. ويقول بعض مؤيدي هذا التوجه، إن صفقة الـ«TPP» سترفع معايير الحكم لعدد من الشركاء التجاريين للصين، كماليزيا وفييتنام، وبالتالي، الضغط على الصين للتمسك بشكل وثيق بالمعايير الدولية. وتقول الإدارة، إنّ ضمان المساواة في المعاملة بالنسبة إلى الشركات الأميركية في جميع أنحاء آسيا، سيرفع من مستوى التنافس لدى العمال الأميركيين.
ومن وجهة نظر الولايات المتحدة الأميركية، يكمن السؤال حول ما إذا التكامل في شرق آسيا سيحصل وفقاً للمبادرات الأميركية أو بقيادة الصين. فقد دعمت الحكومة الصينية وجود منظمة تجارية منفصلة في المنطقة، وهي منظمة الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة «RCEP»، والتي ستشمل 16 بلداً، لا تضمّ الولايات المتحدة. وقد أظهرت بعض هذه الدول قلقاً مشابهاً: فقد وافق القائد السنغافوري لي خوان يو عام 2013 أنه «في ظلّ عدم وجود اتفاقية تجارة حرّة FTA بين كلّ من كوريا، اليابان، تايوان، والدول الأسيوية ASEAN، فإن اقتصادها سيدمج مع الاقتصاد الصيني ـ وهذا ما ينبغي تجنّبه».
يؤكد آلدن أن الـ«TPP»، كأكبر شركة مساهمة في آسيا، اكتسبت بعداً جيوسياسياً كبيراً. ويقول: «تنظر الدول الآسيوية إلى هذا كرمزية لالتزام الولايات المتحدة بمنطقة شرق آسيا». ويتابع: «وسيُنظر إلى الفشل على أنه تراجع كبير للولايات المتحدة في مجال الانخراط في آسيا». أما آخرون، كمثل المحرّر دايفيد بيلينغ، في «Financial Times» Asia فيقول، أن حلفاء الولايات المتحدة في آسيا سيبتعدون إذا ما أسيء التعامل مع الـ«TPP».
تنزع الصفقة الحالية مع الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز العلاقات عبر الأطلسي، في الوقت الذي تصارع فيه أوروبا على جبهات عدّة. تنخفض معدّلات النمو بشكل مخيّب للآمال، فيما ترتفع معدذلات البطالة، وقضايا الديون السيادية المستمرة في منطقة اليورو، والتي تسير جنباً إلى جنب في مواجهة كبرى مع روسيا ما يخلق وضعاً غير مستقرّ بالنسبة إلى القارة.
يقول المدير المؤسس لمعهد «بيترسون للاقتصاد الدولي»، والمدافع الشرس عن التجارة الرائدة، فريد بيرغستون، إن الصراع الأوروبي يلقي الضوء على مدى الحاجة إلى الـ«TTIP»، ويشدّد على أن هذه الصفقة تساعد في تقوية الإصلاحات التي تحتاجها الدول الأوروبية الأكثر ضعفاً».
في نهاية المطاف، ووفقاً لبيرغستون، فإنه حين يرتبط الأمر بالصفقات التجارية، فإن الهدف الرئيسي يتمثل بالسياسة الخارجية والأمن القومي. فهذه هي الحال في جميع اتفاقيات التجارة الأميركية السابقة. ويقول إن جولة كنيدي من المفاوضات إبان الستينات، كانت موجّهة تحديداً نحو تعزيز العلاقات مع الحلف الأطلسي، بينما لعب الـ«NAFTA» دوراً رئيساً في تقوية الاقتصاد المكسيكي وتجنّب عدم الاستقرار على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. وإذا كانت هذه الحال في الماضي لا يزال قائماً، فإن الأمن القومي هو ما سيُقنع الكونغرس في نهاية المطاف…».
تأثير توسيع نطاق التجارة على اقتصاد أميركا
ازدادت أهمية التجارة بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي منذ بداية الخمسينات، بالتوازي مع التمدّد الأوسع للتجارة العالمية خلال تلك الفترة. أما اليوم، فيؤكد الخبراء الأميركيون أن قيمة الصادرات والواردات الأميركية قد ارتفعت إلى 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة «PDF»، بارتفاع بلغ أقلّ من 10 في المئة من حقبة ما بعد الحرب العاملة الثانية. إنه رقمٌ منخفض مقارنةً مع غيرها من الدول المتقدمة ـ فاليابان فقط لديها قيمة تجارية إجمالية أقلّ من ناتجها المحلي. غير أن التجار، والمصدّرين على وجه التحديد، يلعبون دوراً رئيساً في دعم النمو والتوظيف في الولايات المتحدة. وتقدّر وزارة التجارة أن صادرات الولايات المتحدة بلغت 2.3 تريليون دولار، فضلاً عن دعم مباشر لحوالى 11.7 مليون وظيفة. إضافة إلى أن أكثر من 300.000 من رجال الأعمال يصدّرون بضائعهم وخدماتهم، وأن 98 في المئة منها هي استثمارات صغيرة ومتوسطة الحجم تضم حوالى 500 موظف. إن بحثاً أعمق للفوائد الاقتصادية والتجارية يمكن أن نعثر عليه في تقرير فريق العمل المستقلّ في التجارة الأميركية وسياسة الاستثمار «CFR» .
يجادل بعض الاقتصاديين في أنه سيكون للـ«TPP» و«TTIP» أثرٌ إيجابيّ كبير على اقتصاد الولايات المتحدة. فمن حيث المبدأ، أُعطيَ المصنّعون الأكثر كفاءةً في آسيا زيادةً في صادرات الولايات المتحدة، في حين انخفضت أسعار الواردات والمكاسب الإنتاجية ما اعتبر رحمةً للمستهلكين. ويبيّن «معهد بيترسون للبحوث» في إحدى الدراسات أن الـ«TPP» ستحقق للولايات المتحدة مكاسب سنوية تفوق قيمتها 78 مليار دولار. أما حين يرتبط الأمر بالـ«TTIP»، فإن تقديرات المفوضية الأوروبية «PDF» تؤكد أن هذه الصفقة ستضيف أكثر من 100 مليار دولار إلى اقتصاد الولايات المتحدة، و152 بليار دولار للاقتصاد الأوروبي سنوياً.
ويؤكد آلدن في هذا المجال أن الشركات متعدّدة الجنسيات تكسر قيود الاستيراد الخاصة بها في جميع أنحاء العالم، «فنحن نقدم لبلادنا جميع الفرص المُتاحة كي تكون رائدةً في مجال الاستثمار».
مخاوف
إن دعم الـ«TPP» والـ«TTIP» هو أبعد ما يكون عن الإجماع. فقد أعرب الروّاد الاقتصاديون، وممثلو العمّال، وجماعات حقوق المستهلك عن قلقهم الفادح إزاء تأثير كلّ ذلك على العمالة وعدم المساواة والسيادة الوطنية ومعايير السلامة. وهناك أيضاً قلق شعبيّ كبير ناتج عن تأثيرات العولمة: فقد أظهر استطلاع نشره «مركز بيو للأبحاث»، أن الأميركيين يعتقدون أن فوائد العولمة قد هبطت بشكل حادّ في أوائل الألفية الثالثة، على رغم الانتعاش الاقتصادي الحاصل، والثقة بالتجارة الأجنبية. وكان خبير الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل بول كروغمان، قد وافق على المبالغة في وصف منافع «الجيل القادم» من الصفقات. كما اعترف وزير الخزانة السابق لورانس سومرز أن «التجارة والعولمة زادتا من فرص عدم المساواة في الولايات المتحدة عن طريق إكساب الكبار مزيداً من الفرص، وتعريض العمال العاديين للكثير من المنافسة». لكن، وبينما تشير أبحاث أخرى إلى تدنّي معدّلات التصنيع في الولايات المتحدة، يمكننا أن نعزو أسباب ذلك جزئياً إلى نموّ الواردات الآسيوية، وقد أشار سومرز أيضاً إلى أن لا علاقة تذكر لذلك مع اتفاقيات التجارة ذاتها. فالابتكار التكنولوجي ـ بنظره ـ يلعب دوراً أكبر من ذلك بكثير. وأثار النقاد مخاوف كبيرة في شأن شفافية العمليات والآثار المترتبة على صفقات السيادة الوطنية.
إن ارتفاع تأثيرات العملة على العجز التجاري بشكل حاد في التسعينات وأوائل الألفية الثالثة، يبقى القلق الأبرز. وكانت الصين سابقاً المتهم الرئيس الأبرز، فهي أيّدت تخفيض قيمة عملتها بشكل مصطنع. غير أن بيرغستون يؤكد لـ«معهد بيترسون» أنه من المهم تجنّب التلاعب المحتمل في المستقبل. فالصين ليست جزءاً من الـ«TPP» لكنها قد تنضمّ اليها يوماً ما، وتساعد أكثر في وضع ضوابط لردع دول الـ«TPP» الأخرى ممن لديها تاريخ في التلاعب بالعملات مثل سنغافورة وماليزيا.
توسيع العجز في التجارة الأميركية
يعارض ـ في الوقت عينه ـ الأعضاء الديمقراطيون والجمهوريون في الكونغرس كلاً من الـ«TPP» و«هيئة ترويج التجارة» بسبب هذه القضية. ويصرّ المعارضون هؤلاء بمن فيهم إدارة الرئيس أوباما، على أنه من المرجح ان يُغرق التلاعب بالعملة المفاوضات التجارية. فضلاً عن وجود مخاوف من إمكانية التوصل إلى نتائج غير مقصودة للحدّ مما تراه الحكومة الأميركية تنفيذاً مشروعاً لسياساتها النقدية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ـ كمثل التسهيلات الكمّية والتي تؤثّر على إضعاف عملة البلاد.
ومن المتوقع أن يساهم تعزيز النموّ المساعدة في تجنّب الانكماش في اليابان ومنطقة اليورو، والتي ستزيد بدروها الطلب على الصادرات الأميركية.
وقد أثار النقّاد أيضاً مخاوف في شأن شفافية العملية والآثار المترتبة على صفقات السيادة الوطنية. إن حكماً يُعرف باسم آلية تسوية نزاعات الاستثمارات الدولية، أثار مخاوف من أن الشركات العالمية ستكون قادرة على تجاوز قرارات الحكومة المحلية.
ويقول مؤيّدو الـ«TPP» أن هذه البنود لا تختلف عن بنود مشابهة مستخدمة في اتفاقيات التجارة السابقة.
وفي نهاية المطاف، فإن اعتراضات كثيرة تدور حول سريّة العملية. ويبقى أمام المشرّعين، فرصة تطوير نقاشاتهم، وقدرتهم على عرض وثائقهم في غرف آمنة فقط. ويقول آلدن: «إن هذا من شأنه أن يقود الكونغرس وكذلك الجمهور إلى تقديم شكاوى بسبب استبعادهم من التداولات وأميل بشدّة إلى التأكيد على أن هذه الاعتراضات يُفترض أن تكون علانية، فبدلاً من الإعداد لتعريف عن مصالح الشركات بقدر كبير من التفصيل في المواقف التفاوضية، فإنهم وأعضاء الكونغرس سيصوتون حتماً بـ:لا».