نقاط على الحروف

لبنان موحد وراء المقاومة بعكس وسائل التواصل

ناصر قنديل

مَن يتجوّل على حسابات الناشطين السياسيين والإعلاميين اللبنانيين على وسائل التواصل الاجتماعي يكاد يقول إن لبنان يعيش انقساماً حاداً حول أداء المقاومة على الحدود في مواجهة العدوان على غزة يشبه الانقسام الذي عاشه خلال حرب تموز 2006، لكن مَن يتفاعل مع الناس الطبيعيّين ويستمع إلى سائق سيارة الأجرة وصاحب السوبر ماركت ومدير فرع مصرف ومحامٍ وطبيب وأستاذ مدرسة وعامل نظافة، من مختلف المناطق والطوائف، يكتشف بسهولة أن الصورة مغايرة، وأن اللبنانيين لم يكونوا يوماً موحّدين وراء المقاومة كما هم اليوم، حتى خلال فترة احتلال جنوب لبنان لم تكن صورة الوحدة ظاهرة كما هي اليوم.
تعيد جهات سياسية متابعة هذه الظاهرة، إلى مجموعة عناصر، أولها وأهمها هول المجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في غزة والتي تستهدف النساء والأطفال، وحجم الدمار غير المسبوق في الحرب الذي يطال كل العمران في غزة، بصورة انفجر معها الغضب الشعبيّ في شوارع العالم التي اعتاد الإسرائيليون على دعمها الأعمى لهم. وهذا المناخ العالمي عنصر ثانٍ لا يقلّ في الأهمية ترك بصماته على اللبنانيين في الاغتراب، خصوصاً فئة الشباب منهم، الذين كانوا يقعون تحت ضغوط الرأي العام في البلاد التي يعملون فيها، واليوم باتوا يسمعون الإشادة بأداء حزب الله، بل الإشادة بأنصار الله في اليمن وتفاعلهم مع العدوان وتدخلهم لنصرة غزة.
لعب دوراً حاسماً في هذه الوحدة، اختيارُ المقاومة للتدرج في تفاعلها مع العدوان والردّ عليه، بصورة أوضحت أن حزب الله يضع لبنان ومصالحه وتناقضاته في حساباته، ويتعامل معها كأولوية لا تقل قيمة عن أولوية التصدّي للعدوان الإسرائيلي ونصرة غزة ومقاومتها، والشرائح اللبنانية التي لا تنتمي إلى البيئة المباشرة لحزب الله كانت دائماً تحت تأثير دعاية تتهم حزب الله بأنه لا يقيم اعتباراً لأوضاع لبنان ومواقف قواه السياسية ولا لمصالحه، ويقدّم مصلحة المقاومة، بل ومصلحة إيران، على هذه الحسابات اللبنانيّة. وساهمت هذه الإدارة العاقلة والحكيمة من جانب المقاومة، في استدراج تقدير أطراف لبنانية كانت تخشى الانزلاق السريع نحو حرب كبرى، يعرف اللبنانيون أن حزب الله يملك القدرة العسكرية على خوضها والانتصار فيها، لكنه يسعى الى تفاديها لإدراكه أنها ترتّب نتائج مدمّرة على لبنان. وكان موقف كل من زعيم الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط والبطريرك الماروني بشارة الراعي والمفتي عبد اللطيف دريان تعبيرات متفاوتة عن هذا التقدير، خصوصاً أن تفاعل الشوارع والبيئات الشعبية التي يتأثر بها هؤلاء القادة وسواهم، مع العدوان على غزة عزز شعورهم بالخزي من الموقف العربي أمام ما يجري على مساحة العالم من تضامن. وهذا يمنحهم شعوراً بالرضى تجاه أداء حزب الله كممثل للمشاركة اللبنانية في نصرة غزة.
يدرك اللبنانيون أن اللحظة الراهنة التي يديرها حزب الله ليست نهاية المطاف، وأن احتمالات التدحرج نحو الحرب الكبرى لا تزال قائمة، لكنهم يدركون أن حزب الله يعمل ما في وسعه لتدارك حصول ذلك، وأنه يقيس بميزان الذهب خطواته ليكون بمستوى التحديات التي تطرحها قضية مصيرية بحجم الحرب الدائرة على الحدود، والتي يقدّم فيها خيرة شبابه ليحجب دماء اللبنانيين في الداخل، ولكنه في الوقت نفسه يضع الضوابط التي يمكن أن تبقي الحرب على وتيرة دون الانفجار الكبير، لكن لا أحد يملك الضمانة بأن تأتي لحظة لا يعود معها ممكناً الجمعُ بين هاتين، منع الاحتلال من الخروج بصورة انتصار، ومنع الذهاب إلى حرب كبرى، لأن الحفاظ على اليد العليا للمقاومة وصورة ردعها هو الشرط الحاسم في حماية لبنان اليوم وغداً وكل يوم. وبعد الذي شاهده اللبنانيون في غزة باتوا يعرفون ما يمكن لهذا العدو أن يفعله، ومعنى العلاقة الأميركية به وخطأ الرهان على فرضية لجمه من الغرب وتقديم الحماية لأي عربي، وأن الحماية التي توفرها المقاومة هي كنز وطنيّ يجب الحفاظ عليه، خصوصاً أن هذه المقاومة تظهر أعلى درجات الحكمة والعقلانية في إدارة الحرب آخذة بالحساب مسؤوليتها الوطنية، بحيث باتت تملك في حماية بلدها نوعاً من التفويض الشعبي غير المعلن.
أن يُصرّ الشباب اللبناني في الاغتراب من كل الطوائف والمناطق، على تمضية عطلة الأعياد في لبنان، سواء كان اغترابه إلى بلاد عربية وخليجية خصوصاً، أو الى بلاد الغرب، وخصوصا أميركا، وأن يقول هؤلاء إنهم آتون الى لبنان وهم يعلمون أن خطر اندلاع الحرب قائم، لكن مجيئهم هو أقل المساهمات التي يفخرون بفعلها تعبيراً عن تضامنهم مع غزة وشعبها ومقاومتها التي رفعت رؤوس العرب جميعاً، وهم منهم، وأنهم يفخرون بمقاومتهم التي منعت عنهم شعور الخزي الذي أصاب الكثير من الشباب العربي بسبب أداء حكوماتهم الضعيف والواهن تجاه هول ما يجري في فلسطين. واللافت أن نسبة كبيرة من هؤلاء الشباب تنتمي تقليدياً إلى بيئة قوى الرابع عشر من آذار أو بيئة السابع عشر من تشرين، ويمكن التعرّف على المزاج المسيطر على هؤلاء الشباب الذين خرج كثيرون منهم في تظاهرات عالمية دعماً لغزة، مما ينشرونه باللغات الأجنبية على تطبيق انستغرام، وما يضعونه من تعليقات على صور الأطفال الفلسطينيين وتعليقاتهم على ما يكتبه عدد من المشاهير تضامناً مع غزة وفلسطين.
ليس لدى أحد ضمانة بألا نكون ذاهبين الى الحرب، في ظل سعي إسرائيلي مكشوف لنقل المواجهة إلى هذا المستوى، رغم الممانعة الأميركية الواضحة. وليس خافياً أن بنيامين نتنياهو يريد إغراق المنطقة في هذه الحرب وتوريط أميركا بخوضها الى جانبه، أملاً بتوزيع الخسائر بحيث يناله منها نصيبٌ أقل بكثير من خطورة تحملها منفرداً، وليس خافياً أيضاً أن احتمالات النجاح بردعه غير أكيدة، في ظل الضعف الأميركي في التعامل مع كيان الاحتلال وخروجه عن كل الضوابط، حتى اضطر الرئيس الأميركي الى القول متأخراً أنه يخشى أن تتحول “إسرائيل” إلى عبء أخلاقي على اميركا، بعدما تحولت كذلك بفعل دعمه الأعمى لها؛ لكن الأكيد أنه إذا ذهبنا الى الحرب فإن وحدتنا الداخلية سوف تكون هذه المرة أفضل من أيّ مرة سابقة، وأن الأصوات المشككة والمعارضة سوف تكون أصواتاً سياسية لا شعبية لها، تؤدي مواقفها على إيقاع طلبات خارجيّة لا بناء على حسابات داخليّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى