رؤية متكاملة: نحو اقتران المقاومة الميدانية المسلّحة بالمقاومة المدنية الاقتصادية
د. عصام نعمان*
كشفت ملحمة طوفان الأقصى في منبتها ومسيرتها ومرتجياتها أنها من صنع الشعوب وحسب. ما من حكومةٍ، ربما باستثناء حكومة اليمن في صنعاء، جاهرت ومارست دعمها للمقاومة الميدانيّة المسلّحة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة كما في الضفة الغربية. صحيح انّ طوفان الأقصى بمقاومته البطولية فجّر انتفاضات مؤيدة للشعب الفلسطيني ومناهضة للحكومات المستبدة والفاسدة في قارات العالم الخمس، لكن شموليتها وحرارتها الاحتجاجية كانت أدنى وأضيق في عالم العرب، الأمر الذي يستوجب درسَ وتحليلَ تحديات الصراع حاضراً ومستقبلاً بغية التوصّل إلى اجتراح مناهج وآليات وأفكار وأدوات أكثر تطوراً وفعالية لاعتمادها في حركات الشعوب المنتفضة في سبيل حقوق الإنسان والحرية والعدالة وكرامة العيش والرفاه وحكم القانون والإبداع الحضاري.
إنّ ما تستطيعه الشعوب أقوى وأفعل وأعلى مردوداً مما تستطيعه الحكومات في زمننا، ولا سيما في قارتنا العربية. لذلك، يقتضي تنبيه قوى المقاومة والحركات النهضوية في بلادنا العربية على صعيدي التفكير والتدبير الى مهام وأعمال وحاجات وأهداف مستحقة وضرورية يقتضي التزامها والقيام بها دونما إبطاء في النطاق المحلي، كما على المستوى العربي العام:
أولى المهام ضرورةُ إحياء الاهتمام وبالتالي الالتزام بوحدة المصير العروبي بين شعوب الأمة، وضرورة تعميق وتعميم مفهوم علمي ونهضوي للعروبة بما هي هوية وثقافة وممارسة أرقى وأعلى من العصبيات والروابط المحلية والمناطقية والقطرية السائدة راهناً، قوامها اللغة والمعتقدات والقواسم والمصالح والتطلعات المشتركة والاتحاد في مواجهة الأعداء الخارجيين والمستغِلين المحليين للأزمات الداخلية المعوّقة لأمن الوطن والأمان الاجتماعي والسلام.
ثانيةُ المهام ترفيعُ قضية فلسطين من مرتبة القضية العربية المركزية الى مستوى القضية المركزية لعالم العرب وعالم الإسلام معاً وصولاً الى جعلها أيضاً أولى قضايا الإنسانية عامةً، أفراداً وجماعات، في العالم المعاصر.
ثالثةُ المهام وجوبُ اعتبار الولايات المتحدة بمثابة “إسرائيل الكبرى” والكيان الصهيوني بمثابة “إسرائيل الصغرى”، وأنهما في الواقع والمطامع والمطامح عدو واحد متكامل في عداوته السياسية والاقتصادية والثقافية للعرب أجمعين ما يستوجب محاربة أميركا ومقاومتها بالتوازي والتزامن مع مقاومة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وامتداداتهما المتنوّعة الأغراض والأحجام والمصالح في بلاد العرب عموماً.
رابعةُ المهام وجوبُ اقتران المقاومة الميدانية المسلّحة في فلسطين المحتلة، كما في سائر بلاد العرب، خلال الصراع مع “إسرائيل الصغرى” و”إسرائيل الكبرى” بمقاومةٍ مدنيةٍ اقتصادية وذلك بوتيرةٍ متوازية ومتزامنة بغية تحقيق أعلى درجات الفعالية والجدوى والمردود في الصراع الهادف الى تقليص نفوذهما وتعطيل مصالحهما في مسار إنهاء وجودهما بشتى أشكاله في الوطن العربي الكبير.
خامسةُ المهام جعلُ حملة مقاطعة المنتجات المصنّعة في الكيان الصهيوني والدول المتحالفة معه والمعادية للعرب، مسؤوليةً وقيادةً، في أيدي شعوب الأمة وقياداتها وليس فقط في أيدي الحكومات الملتزمة بتنفيذها وذلك ضماناً للجدّية والفعالية والمتابعة في إطار مخططٍ متكامل يرمي الى جعل المنتجات الزراعية والصناعية والثقافية والفنية الوطنية بديلاً من مثيلاتها الأجنبية، ما يحقق مكاسب عظيمة للاقتصاد الوطني في كلٍّ من بلاد العرب.
سادسةُ المهام تعزيزُ الضغوط السياسية والاجتماعية والشعبية لحمل الدول العربية التي تمتلك فوائض مالية ضخمة على توظيفها في دول عربية بحاجة إلى التنمية والإعمار، او في دولٍ صديقة غير معترفة بالكيان الصهيوني او متعاونة معه.
سابعةُ المهام تحضيرُ المستندات والوثائق اللازمة لمقاضاة “إسرائيل الكبرى” كما “إسرائيل الصغرى”، طلباً للتعويضات المتوجبة حقاً واقتصاصاً من جريمة تصفية عشرات الآلاف من سكان قطاع غزة والضفة الغربية لفلسطين المحتلة، وإقامة الدعاوى القضائيّة اللازمة بهذا الشأن أمام المحاكم الدولية ذات الصلة وأهمّها محكمتا العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
ثامنةً المهام التوافقُ مع كبريات حركات التحرير الوطني والتشكيلات النهضوية المناضلة ضد الاستعمار والعنصرية والهيمنة الأجنبية في شتى دول العالم من أجل تشكيل محكمة الضمير العالمية لمحاكمة الدول والحكام الاستبداديّين والعنصريّين المعادين لحقوق الإنسان وحرية التعبير وإعاقة مؤسسات القضاء الوطنية في جميع الدول كما إعاقة المحاكم الدولية ذات الصلة.
تاسعةُ المهام عقدُ مؤتمرٍ عالمي للقوى والهيئات والحركات المعادية للاستعمار والهيمنة الأجنبية، السياسية والاقتصادية، والناشطة في سبيل حقوق الإنسان والعدالة وكرامة العيش والرفاه وحق تقرير المصير، يكون في صدارة جدول أعماله وأنشطته إعادة تكريس الصهيونية حركةً عنصريةً نازيةً معادية لحقوق الإنسان وكرامته وأمنه، وعقد ندوات بحثية واستشرافية وطنية وعالمية لدرس واقع وتداعيات أبرز تحدّيات العصر وانعكاساتها على البشرية جمعاء كالذكاء الاصطناعي وتغيّرات المناخ، فضلاً عن ضرورة وضع نظام دولي جديد يحلّ محلّ النظام الدولي الحالي المتداعي.
عاشرةُ المهام التواصلُ مع حركات التحرير الوطني وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة في العالم من أجل التعاون لتحقيق الأهداف المشتركة.
إذا كانت حركات التحرير الوطني والمقاومات الميدانية المسلّحة قد نجحت ماضياً وحاضراً في تحرير الأرض إلاّ أنها لم تنجح في تحرير الإنسان من القيود والمعوّقات والضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولجية التي كبّلت وتكبّل إرادته وحريته وحركته في شتى أنماط الحياة ومجالاتها، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في أساليب ممارسة هذه الحركات والمقاومات نضالها على نحوٍ يحرّرها من أغراض السياسة وتدخلات السياسيين ومراكز السلطة ويعمّق اهتماماتها بالإنسان بما هو أعظم ظاهرات الوجود وليس حيواناً سياسياً في حديقةِ أهل السلطة والمال الفاسدين.
*نائب ووزير سابق
[email protected]