من الصمود الأسطوري إلى حقائق النصر…
أحمد بهجة
حين كنا نُعبّر عن الثقة بانتصار غزة في بدايات معركة «طوفان الأقصى» كان البعض يسأل: على ماذا تبنون هذه التوقعات المتفائلة فيما طيران العدو الصهيوني وصواريخه تدكّ غزة كلها، مدناً وبلدات ومخيمات ومستشفيات ومدارس وكنائس ومساجد ومراكز إيواء…؟ وتُوقع يومياً مئات الشهداء والجرحى وتجعل آلافاً آخرين بلا مأوى ودواء وغذاء ولا أيّ شيء من مقوّمات الحياة؟
في البداية كان مصدر التفاؤل يأتي من الصمود الأسطوري لأبناء غزة الذي كانوا يخرجون من بين الركام رافعين شارات النصر ويصرخون بأعلى الأصوات: «معلش… فدا المقاومة وفدا فلسطين».
ثم مع توالي أيام المعركة التي تجاوزت الـ 100 يوم، أضيفَ إلى عامل الصمود مصدر آخر للتفاؤل بل للتأكيد بأنّ النصر آتٍ لا محال… وهو الذي يتجلى في بطولات عمالقة المقاومة التي تتحدث عن نفسها بالصورة والصوت والفيديوات التي وثقت بعض الإنجازات النوعية في الميدان، وليس كلها، وأعطت الإشارات الواضحة والأدلة الأكيدة على الهزيمة التي تلحقها المقاومة بجيش الاحتلال الذي تهرب وحداته وفرقه من الميدان مع كلّ الإحباط والأزمات والعقد النفسية التي يحملها ضباطها وأفرادها الذين خرجوا على قيد الحياة.
يحقّ لنا جميعاً وأوّلنا أشقاؤنا الفلسطينيون أن نفرح بهذا النصر حتى لو أتى ممزوجاً بالألم والمرارة نظراً لفداحة الخسائر، وفظاعة جرائم العدو وارتكاباته التي يحاكَم عليها اليوم أمام محكمة العدل الدولية، وأمام الرأي العام العالمي الذي كان في السابق ينجرف مع الإعلام المؤيد لكيان العدو، لكن التفوّق الإعلامي لمحور المقاومة أحدث انقلاباً كبيراً في هذا الرأي العام العالمي من خلال الحقائق والوقائع التي أظهرها إعلامنا بشكل واضح وبحِرفية عالية، إضافة طبعاً إلى الجيوش الالكترونية التي فعلت فعلها على وسائل التواصل وهي وسائل الإعلام الحديثة في هذه الأيام، فأصبحنا نرى التظاهرات والمواقف البرلمانية في معظم دول العالم تدين العدو وتدعو إلى وقف تسليحه وإزاحة مسؤوليه ومحاكمتهم كمجرمي حرب…
نحن اليوم أكثر ثقة بأننا سائرون إلى نصر أكيد على هذا العدو الغاشم الذي لا يعرف منذ نحو قرن من الزمن إلا لغة القتل والإجرام وارتكاب المجازر بحق أبناء شعبنا في فلسطين ولبنان وسورية وكلّ بلادنا العربية.
أيضاً لدينا مصدر مهمّ جداً لهذه الثقة، وهو الذي نراه ونشاهده يومياً على صعيد وحدة الساحات، حيث جبهات الإسناد لغزة وفلسطين مفتوحة كلها بدءاً من لبنان ومقاومته الباسلة الشجاعة التي لم تأبه لكلّ أنواع الضغوط والإغراءات، وفتحت النار بعد يوم واحد من «طوفان الأقصى»، ولا تزال النار مشتعلة حتى اليوم ولن تهدأ إلا إذا توقف العدوان على غزة، ومثل المقاومة في لبنان كذلك في العراق واليمن وسورية وإيران… مع الاستعداد التام لتقديم الغالي والنفيس في سبيل تحقيق النصر ودحر العدو.
واليوم نسمع مَن يقول إنّ الاغتيالات التي ينفذها العدو الصهيوني والولايات المتحدة ضدّ قيادات كبيرة في محور المقاومة سوف تلحق الخسارة بمحور المقاومة!
هنا لا بدّ من التوضيح أنّ كلّ القادة والمقاتلين والمدنيّين الذين ارتقوا شهداء في فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن وإيران… كلّ هؤلاء الشهداء الأبرار، الذين نحزن على فراقهم ويعزّ علينا خسارتهم، تمثل دماؤهم الطاهرة الزكية قوة دفع للمقاومة في كلّ الجبهات، وتجعلها أكثر قوة وصلابة وإصراراً على النصر، ولنا تجارب سابقة مع الاغتيالات وكيف أنّ المقاومة كلما ارتقى منها قائد أو مقاتل شهيداً تزداد تألقاً وعطاء وبذلاً من أجل شعبها وبلدها…
كما أننا نرى اليوم كيف أنّ محور المقاومة على أعلى درجات التنسيق، وكيف أنّ الردود على العدو لا تأتي على قاعدة الانتقام، بل تتمّ بخلفية استراتيجية، وتظهر للعدو وللرأي العام بشكل مباشر أنّ سياسة الاغتيالات دليل ضعف وعجز وأنّ تأثيراتها محدودة، رغم أنّ الأشخاص المستهدفين يمثلون قيمة كبيرة جداً ولهم سيرة ناصعة من العطاء والبذل، إلا أنّ مسيرة المقاومة لا تتوقف على أشخاص، بل انّ ما أنجزه هؤلاء الشهداء الكبار إنما أنجزوه من أجل أن يستمرّ البنيان ويعلو يوماً بعد يوم وصولاً إلى تحقيق كلّ الأهداف المنشودة…