جرائم القرن «الإسرائيلية» برسم البشرية
أحمد عويدات
شهدت البشرية والعالم على مر العصور الكثير من الحروب والاحتلالات، بيد أنها لم تكن بوحشية وإجرام وتنوع وتفنن ما ارتكبته وما زالت قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
الأمر لا يتعلق فقط بتجاوز كلّ المواثيق والأعراف والقوانين الدولية الإنسانية؛ بل بتأثير وانعكاس هذه الجرائم على مستقبل البشرية جمعاء عموما، وبشكل خاص على مستقبل الأسر الفلسطينية؛ التي بات معظمها على شفا الاختفاء كلياً من السجلات المدنية. لقد حدثت هذه الإبادة لكثير من العائلات، التي لم يستشهد الأب والأم فقط والأشقاء؛ بل باقي أفراد الأسرة من عم وخال وعمة وخالة وأبنائهم وأحفاد وحفيدات. إذ بلغ أحياناً عدد شهداء الأسرة الواحدة 50 شهيداً بغارة واحدة وبناء واحد. وإنْ كنا، نحن الفلسطينيين، علمنا مسبقاً ومنذ عقود بطبيعة الإجرام الصهيوني، وتأصّله في البنية الفكرية والسيكولوجية والدينية المتطرفة؛ فكيف للبشرية أن تتحمّل اليوم هذا الإجرام الاستثنائي الذي فاق الخيال؛ وهي ترى إعدام امرأة وهي تصطحب حفيدتها برغم أنها ترفع راية بيضاء، وإعدام رجل مسنّ يسأل قاتليه عن الطريق، وإعدام آخر معاق لا حول ولا قوة له؟! أمام مرأى ومسمع العالم بأسره يجري قتل العديد من الآباء أمام أطفالهم ونسائهم وبدم بارد؟! ويجري سحل وتعذيب وإذلال الآباء عراة تماماً أمام ذويهم.
في الواقع، لم تبق جريمة إلا ومارسها وتباهى بها جنود الاحتلال؛ وكأنها هواية كالرسم ولعب الكرة، فذاك الجندي الصهيوني يهاتف فتاته متفاخراً أنه اضطر إلى قتل فتاة تبلغ الثانية عشرة بعدما لم يعثر على طفلة أصغر. وذاك الجندي الذي خطف طفلة رضيعة وأوْدعها عند صديقه بعدما أصيب. وضابط ثالث يهدي ابنته في عيد ميلادها نسف بناية ببث حي ومباشر. إنها السادية التي لقنها لهم الحاخام الأكبر، وتنفيذاً لرؤيتهم التوراتية الزائفة التي خاطبهم بها رئيس حكومتهم الفاشية نتنياهو قائلاً: «إنهم في مواجهة العماليق». وكان يعني في ذلك أنه يجب قتل الطفل والمرأة والرجل والغنم والبقر إلخ…
هذا التطهير العرقي، وهذه الجرائم لم تطفئ ظمأ الانتقام لديهم من الأحياء، فعمدوا إلى سرقة جثامين الشهداء واقتطاع أعضاء منها على سبيل الإتجار أو التمثيل بها. حتى المقابر لم تسلم من أفعالهم الدنيئة؛ فجرفوها ونبشوا القبور، وعبثوا بالجثث انتهاكاً لحرمة الموتى وكرامتهم، بذريعة أنهم يبحثون عن جثث قتلاهم من الأسرى. وكم من جريح أجهزوا عليه أمام أسرته، وكم من بريء لا صلة له بعمل عسكري، اقتيد مكبلّاً إلى أماكن مجهولة وعارياً بالعراء في ظروف البرد القارس؛ إذلالاً لهم أمام أطفالهم ونسائهم، وكأنهم يسعون إلى تحطيم الذات الفلسطينية من داخلها. إنهم بذلك يعيدون للأذهان الصورة ذاتها التي كان النازيون يمارسونها مع المعتقلين إبان الحرب العالمية الثانية.
من ناحية أخرى، كان للبنى التحتية النصيب الوافر من جرائمهم؛ فقطعوا الاتصالات والكهرباء، وخرّبوا شبكات مياه الشرب والآبار والصرف الصحي؛ لزيادة معاناة الأهالي، وحرمانهم من سبل الحياة اليومية. وقام جنود الاحتلال بتجريف الشوارع؛ لتقطيع الأوصال وإعاقة التواصل مع فرق الدفاع المدني والإسعاف. وإمعانا بالإجرام، أجهزت القوات الغازية على المنظومة الصحية؛ من خلال قصف المشافي وتدمير أجهزتها ومعداتها، وإخراجها بالكامل عن الخدمة، واعتقال طواقمها والتنكيل بهم، ونزع أجهزة الأوكسجين والمراقبة عن المصابين، وقطع الكهرباء والماء وإتلاف الأدوية ومنع وصول الوقود لتعطيل الأجهزة وترك الجرحى لقدرهم. وقام الاحتلال بمنع دفن الشهداء، وإبقاء الجثث في العراء، وتركها تتحلل أمام مرأى من النازحين المحاصَرين، الذين لجؤوا إلى المشافي قبل استهدافها، مثلما ارتكب الاحتلال من مجازر في مستشفيي المعمداني والشفاء، وغيرهما من المشافي التي لم يتبقّ منها سوى أكوام من الأنقاض والجثث؛ التي استعصى على رجال الإنقاذ الوصول إليها؛ لأنهم لا يمتلكون سوى جهد أيديهم وإصرارهم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
من ناحية أخرى، لم تكن دور العلم والمعرفة من مدارس وكليات وجامعات بمنأى عن بشاعة وفظاعة مجازر قوات الإحتلال. ولعلّ مجزرة مدرسة الفاخورة وجباليا التابعة للأونروا شاهدة على إبادة النازحين، الذين لجؤوا إلى مقرات أممية؛ معتقدين أنها بعيدة عن الاستهداف الإسرائيلي. وهكذا تحوّلت هذه المدارس إلى مقابر جماعية لتلامذتها وذويهم.
وفي هذا السياق، يأتي نسف جامعة فلسطين بالكامل؛ محاولة من دولة الكيان لقتل الحياة الأكاديمية والعلمية الفلسطينية. وما استشهاد نحو 10 ممن يحملون درجة بروفيسور، وأكثر من 30 ممن يحملون درجة الدكتوراه، ومئات الشهادات العليا من مهندسين ومدراء من اختصاصات مختلفة؛ إلا برهاناً على ذلك.
وتحدثنا الأرقام أنّ أكثر من 75% من الشهداء هم من الأطفال والنساء. وللتذكير فقط، يرى الباحث الإسرائيلي الياهو يوسيان «أنّ الطفل عدو، والمرأة الحامل عدو؛ لأنها تحمل طفلاً عدواً». لذلك فإنّ استهداف الأطفال والنساء جاء ترجمة للفكر الصهيوني المتطرف الذي ينشأ أطفالهم عليه في المدارس. وعليه فإنّ ما ورد في نشيدهم «الوطني» المزعوم (هاتكفاه) تجسيدا لتلك الحقيقة.
هكذا إذن، «أصبح قطاع غزة أخطر مكان على الأطفال في العالم» بحسب ما صرح به نائب المديرة التنفيذية لمنظمة اليونسيف. بعدما كان الأطفال يجدون به مرتعاً وملعباً ومكاناً تكبر فيه أحلامهم؛ أضحى مكاناً لموت أصدقائهم وأشقائهم، بل لدفنهم. أصبح أثراً بعد عين؛ تجرّعوا فيه الألم والمرض والمعاناة. مكاناً سيكبر معهم بصورته النهائية – إنْ قدّر لهم العيش – دماراً وكراهية وحقدا، وربما انتقاماً. حينها، هل المطلوب أن يقدم أطفالنا شهادة وفاتهم قبل شهادة ميلادهم؟ إنّ دمهم الذي ما زال ينزف؛ هو لائحة الاتهام الذي تقدّمت بها الدولة الإنسانية جمهورية جنوب أفريقيا. بل هو صكّ الإدانة لقتلة محترفين امتهنوا كلّ أنواع الجرائم. وبهذا أصبحت غزة قاعدة بيانات؛ لكلّ باحث عن قتلة الإنسان والتاريخ، عن قتلة الشجر والبشر والحجر…