الرد الأميركي: هوليوود لا تنفع هنا
ناصر قنديل
منذ أيام وثمّة حملة إعلامية تبشّر برد أميركي على عملية البرج 22 التي سقط فيها ثلاثة جنود أميركيين قتلى. ومَن يتابع الحملة يتوقع أن المنطقة ذاهبة الى حرب، ويكفي أن نسمع أن الرئيس الأميركي جو بايدن اجتمع الى فريق الأمن القومي ستّ مرات لدراسة خيارات الرد، وأن نستمع الى وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن يقول إن الأمر لن يقتصر على ضربة، بل نحن أمام حملة ممتدّة على أسابيع وتشمل عدة دول ومناطق ومواقع، لنتخيّل أن حرباً كبرى تدقّ الأبواب، فهل هذا الانطباع صحيح، أم أنه هو المطلوب أكثر مما ستفعل الردود الأميركية؟
الواضح أن أميركا أولاً لا تريد الذهاب الى الحرب، لأنها لا تملك ما يسمح لها بالحديث عن الذهاب الى حرب، فإذا كان مفهوم الحرب هو اللجوء إلى القوة النارية الأميركية لتدمير مواقع حساسة وحيوية لدول محور المقاومة وقواه، فالأكيد أن هذا سوف يستجلب رداً مماثلاً على مواقع وقواعد وحاملات طائرات ومدمّرات أميركية ومصالح حيوية وحساسة بالنسبة لأميركا. وهذا يعني هزيمة أميركية ما لم تكن هناك خطة لخوض الحرب البرية. ولو كان لدى أميركا ما يفيد بالقدرة على تحمل تبعات الحرب البرية، لما كانت واشنطن بحاجة لهذه العملية لخوض الحرب تحت شعار الردّ، فكل شيء في المنطقة يتلاشى أمام عيون واشنطن، وهي تعضّ على جراحها النازفة لأنها لا تستطيع المضي نحو الحرب.
إذا كان الهدف من الرد هو الردع، أي إيصال دول وقوى محور المقاومة الى التراجع عن مواقع وأدوار اتخذتها بخلاف التحذيرات الأميركية، خصوصاً ما يتصل بتحريك جبهات الإسناد للمقاومة في غزة، فإن اليمن ولبنان هما أهم هذه الجبهات، فهل نتخيل أن أميركا تملك القدرة لإعادة فتح البحر الأحمر أمام الملاحة الإسرائيلية، أو فتح طريق العودة أمام المستوطنين الذين هجروا من شمال فلسطين؟ ولو كانت تملك هذه القدرة فهل كانت تنتظر هذه العملية التي استهدفت قاعدتها على الحدود السورية الأردنية، وهي ترى بأم العين هيبتها تتداعى ومكانة «إسرائيل» تتراجع؟
من المواقف الصادرة عن قوى في المقاومة العراقية بتعليق العمليات ضد القوات الأميركية، وما نسبته وكالة رويترز الى مصادر مطلعة حول سحب الخبراء الإيرانيين من سورية، يمكن القول إن هناك مسودة تفاهم نجح الوسطاء بصياغته بين طهران وواشنطن، يتضمّن التعاون لخفض التصعيد، سواء عبر ردّ أميركي محسوب لا يشكل تحدياً كبيراً لقوى محور المقاومة، لكنه قابل للتأويل بأنه ضمن حملة ممتدّة لا يمكن وصفه بالردّ المنخفض، لأنه التتمة على الطريق، والمقصود أميركياً هو رد يسمح بالقول للرأي العام الأميركي أن الردّ يعيد صورة الهيبة الأميركية المهدورة، ويمكن لمحور المقاومة أن يراه رداً منخفضاً. والحيرة الأميركية ناجمة عن السعي لجمع هاتين الصورتين المتعاكستين في مشهد واحد وفعل واحد، وهذا يعجز عنه أشدّ مخرجي هوليوود براعة.
الواضح أن واشنطن مقتنعة بأن الحرب انتهت، وأن ليس بمستطاع الرد تعديل موازين القوى التي أنتجها طوفان الأقصى وتحرك جبهات المساندة، وان كيان الاحتلال تلقى هزيمة كبرى في غزة أعادت إنتاج صورة الطوفان مجزأة على مئة وعشرين يوماً، وأن ليس بمستطاع أميركا أن تفعل شيئاً لتغيير هذه الصورة، ولذلك تتفرّغ واشنطن لاحتواء هذه الهزيمة الاسرائيلية. وهذا الصعود في وضعيّة قوى المقاومة، وتحاول أن تقدم بالنيابة عن «إسرائيل» أثماناً من نوع الانسحاب من العراق وسورية، لتجنيب كيان الاحتلال دفع فاتورة مرتفعة تفرضها الموازين الجديدة، بحيث يصبح ما يناله محور المقاومة يقوم على سلّة تتضمّن تكريس انتصار المقاومة في غزة بأقل الخسائر الإسرائيلية. وهذا ما يجري التفاوض حوله عبر صيغة باريس للهدنة المتجدّدة وتبادل الأسرى وفتح الطريق لوقف نهائيّ لإطلاق النار لا يعلن هزيمة الكيان بصورة فاقعة، ويتيح للسياسة بدء البحث حول مستقبل القضية الفلسطينية. وفي السلة تكريس لمواقع حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن، وانسحاب أميركيّ من العراق وسورية.
الردّ الأميركيّ يريد أن يكون الطلقة الأخيرة في مواجهة دارت رحاها على هامش حرب غزة، بين محور المقاومة وأميركا، لا أن يكون الطلقة الأولى في حرب وجوديّة تشتعل بينهما.