مَن يضع قواعد الاشتباك ومَن يستطيع خرقها؟
ناصر قنديل
لا يزال بعض المتفذلكين المتطفلين على السياسة في لبنان، ورهط ممن تسميهم القنوات الفضائية بـ «المحللين والخبراء الاستراتيجيين»، يتحدّثون عن قواعد الاشتباك على جبهة الحدود اللبنانية الجنوبية، وهم يتحدّثون، وربما يعتقدون أن هذا هو الواقع، عن تفاهمات تجري عبر وسطاء على حدود الاستهداف ومداه ونوع السلاح المستخدم فيه ونوعية الردّ المسموح عليه. وهذا الاعتقاد كما الكلام، ليس تعبيراً عن السذاجة بل عن التفاهة والسخافة التي تسكن بعض العقول التي تتولى مهمة تنوير الرأي العام، وعن مستوى الانحدار في المسؤولية في أغلب المؤسسات الإعلامية التي تتصدّى لمسؤولية شرح ما وراء الخبر للرأي العام.
قواعد الاشتباك هي خلاصات واقعيّة مكرّرة تقولها وقائع الميدان، كنتيجة عملية لما يرسمه كل طرف لحدود حركته العسكرية على جبهة القتال، وفقاً لقراءته لموازين القوة التي تحكم علاقته بالعدو الموجود على الطرف المقابل من الجبهة. وعندما كانت قواعد الاشتباك تقول قبل هذه الجولات من حرب غزة، إن المقاومة تنفذ عملياتها في مزارع شبعا المحتلة وإن العدو يردّ بقصف المناطق المفتوحة في خراج البلدات المجاورة، كان هذا لأن المقاومة اعتبرت أن لها الحق بعمليات في مزارع شبعا باعتبارها أرضاً لبنانية. فقامت الحكومة اللبنانية بمراسلة الأمم المتحدة طلباً لاستعادتها، ما يعني أن تنفيذ العمليات داخلها يحظى بغطاء شرعية المقاومة وفق بيانات الحكومة والقانون الدولي معاً، لكن المقاومة نفسها عندما تجاوز العدو تحذيرات المقاومة من عمليات القتل لمقاتليها عبر غاراته على سورية، ردّت بعملية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، عبر عمليّة «أفيفيم»، وتفاعل جيش الاحتلال مع هذا التعديل بما اعتقده تعديلاً موازياً باعتماد رد يذهب أبعد من قصف المناطق المفتوحة في خراج البلدات المجاورة.
منذ 8 تشرين الأول سقطت قواعد الاشتباك المعمول بها، لأن المقاومة فتحت النار بلا سبب لبنانيّ مباشر ناتج عن تعرّض مقاتليها او مواقعها او أراض لبنانية للاعتداء، بل فعلت ذلك تضامناً مع غزة، ومضت توسع فعلها خارج مزارع شبعا المحتلة، وصولاً الى كل امتداد الحدود. وتوسّع عمق الاستهداف حتى عدد متحرّك من الكيلومترات، وصل أحياناً الى 25 كلم، وفرضت المقاومة على جيش الاحتلال بدلاً من الذهاب كعادته إلى حرب شاملة رداً على أي عملية استهداف، فكيف بسلسلة عمليات، أن يتقبّل الاكتفاء بردود نارية بحجم ونوع نيران ومدى عمق جغرافي يوازي عمق استهدافات المقاومة. وعبر التكرار والثبات، صار ممكناً استخلاص قواعد اشتباك جديدة متحركة، قوامها أن المواجهة عبر الحدود تدور تحت سقف تفادي الحرب، وفق قاعدة توازن وتوازي المدى ونوعية الاستهداف وقوة النيران؛ وأن البادئ في تحديد هذه العناصر كان ولا يزال الجانب اللبناني من الجبهة.
خلال كل عملية رسم قواعد اشتباك جديدة أو تطوير قواعد اشتباك قائمة، تكون ثمّة مخاطرة بالذهاب إلى الحرب، على قاعدة اختبار لدرجة تحمل الطرف المقابل للتعايش مع مواجهة تمثل تحدياً لما يؤكده من مزاعم عن قدرة الردع دون أن يترجمها بالذهاب إلى الحرب. وهذا كان حال المقاومة مع كل جديد متحرّك في نمط القواعد الجديدة التي فرضتها خلال الشهور الأربعة الماضية، وقد واجهت خطرين عمليين على هذا الصعيد: الأول في بداية فتح الجبهة عندما كان جيش الاحتلال مفعماً بروح الانتقام من طوفان الأقصى والإذلال الذي تعرّض له على أيدي قوى المقاومة عموماً، والشعور بغرور القوة عندما شاهد الحشود الدوليّة المؤيدة له، واستدعائه لمئات الآلاف من قوات الاحتياط، وتوهّم بعض قادته بوجود فرصة للحسم المزدوج مع غزة ولبنان والتخلص من صداع الشمال والجنوب، وتكفلت الحسابات الخارجية والداخلية بالتراجع عن المخاطرة بمغامرة الحرب. والثاني مع تصاعد معالم الفشل في تحقيق أي نصر في غزة وتحوّل عمليات التدمير والقتل الى عبء سياسي وإعلامي على جيش الاحتلال، وتصاعد أزمة تهجير مستوطني الشمال وتحولها إلى صداع مواز لصداع الأسرى في غزة، والتفكير بأن نقل المواجهة إلى جبهة لبنان قد يسهم في تغيير المناخ السياسي وموازين القوى معاً. وكانت الحسابات العسكرية والنصائح الأميركية كفيلة بصرف النظر عن التفكير العملي بالذهاب الى الحرب دون التراجع الكلامي عن التهديد بها. بينما تعرّضت المقاومة مرتين أيضاً لاختبار الذهاب الى الحرب، الأولى مع تصاعد عمليات القتل في غزة خصوصاً مع الهجوم على مجمع الشفاء الطبي والدعوات للمقاومة بالتصعيد المفتوح، والثانية مع عمليات الاغتيال التي استهدفت مرة الشيخ صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ومرة القيادي في المقاومة وسام الطويل، وفي كل مرة كانت تتغلب لدى المقاومة معادلة التعامل مع المستجدات بما يتناسب لكن تحت سقف عدم الذهاب الى الحرب، وهكذا ترسّخت قواعد الاشتباك مجدداً.
الذي يجري هذه الأيام على جهة الحدود الجنوبية للبنان، هو اختبار للتصعيد نحو قواعد اشتباك أعلى مرتبة، وأكثر قرباً من الحرب، حيث تريد المقاومة تقديم جرعات دعم قوية لموقع المقاومة الفلسطينية التفاوضي في القاهرة، وتقديم مثال لما ينتظر الاحتلال إذا فكر بترجمة الحديث عن فرضية الحرب عملياً، وتأكيد قدرتها الرادعة أمام تحوّل استهدافات الاحتلال نحو المدنيين مع تراجع قدرته على تجديد بنك أهدافه العسكري في جنوب لبنان. فكان الصاروخ الذي بلغ القاعدة العسكرية في صفد، متجاوزاً القبة الحديدية، متكفلاً بتدمير مبنيين معاً، وقتل وجرح عشرة جنود. وجاءت الردود التي نفذها جيش الاحتلال واستهدفت مواقع مدنية وأوقعت شهداء وجرحى بينهم. وهذا الاختبار لا يزال مستمراً، لكن الواضح أنه يجري مجدداً على قاعدة عدم تجاوز سقف ثابت هو تفادي الذهاب إلى الحرب.