الفساد جريمة العصر… تناسلها وتأثيرها على المواطن والثقة بالدولة
عباس قبيسي
في زمن يعجز فيه الكلام عن وصف حجم الفساد المستشري الذي يمكن أن يصنّف في خانة جريمة العصر التي تجتاح المجتمع، يفتح هذا المقال باباً للتأمّل في تلك الآفة التي تؤثر في نسيجنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، إضافة إلى مقاربة واقعية لكيفية معالجتها بعدما أصبحت ظاهرة واسعة الانتشار في عصرنا الحديث، وبات المواطن في غفلةٍ عن نهبه على مدار حياته اليوميَّة.
الفساد في الإدارة يعني إساءة استخدام السلطة والموارد العامة لتحقيق مكاسب ومنافع شخصية. إنها مشكلة إبتليت بها العديد من الحكومات والأمم حول العالم، مما أدى إلى عدم الاستقرار السياسي، كما أدى إلى التدهور الاقتصادي والظلم الاجتماعي، وهو مصدر قلق واسع في كل البلدان المتطورة والنامية على حد سواء، ويتخذ الفساد أشكالاً متعددة، مثل الرشوة أو الاختلاس أو المحسوبية أو السمسرات والمساهمة في إنضاج الصفقات، علاوة على ذلك، يؤثر بشكل غير متناسب على الفئات الضعيفة في المجتمع، مثل الفقراء أو المهمّشين أو الأقلية التي تعيش على هامش الحياة، وغالباً ما يُحرَمون من الوصول إلى الخدمات والفرص بسبب افتقارهم إلى النفوذ والسلطة أو الثروة، ويمكن أن يحدث على أيّ مستوى إداري، من أعلى المسؤولين والرؤساء نزولاً إلى أدنى الموظفين البيروقراطيين، وغالباً ما تتمّ تغذيته بثقافة الإفلات من العقاب، حيث تنعدم الشفافية، بسبب ضعف أنظمة المساءلة، ويزدهر ويتناسل عندما يتقاضى الموظفون العموميون رواتب متدنية، مما يجعلهم عرضة للضغوط الخارجية أو الإغراءات الداخلية، بالإضافة إلى ذلك، يغذي الفساد القطاع الخاص، الذي يسعى إلى التأثير لتأمين الصفقات أو العقود أو التراخيص التجارية أو المناقصات من خلال وسائل غير مشروعة وأساليب ملتوية أحياناً.
تعتبر جرائم الفساد المعاصرة ظاهرة معقدة للغاية يمكن أن يكون لها آثار ضارة كبيرة على كلّ من الدولة والمواطنين. قد تبدو المكاسب التي يتمّ تحقيقها من خلال أعمال الفساد مربحة للمتورّطين والمنخرطين فيها، ومع ذلك، فإنّ العواقب تؤدي إلى تآكل الثقة في الوزارات والمؤسسات العامة، وتقوّض النمو الاقتصادي، وتعيق جهود التنمية المستدامة، وتعاني الحكومات من تراجع مصداقيتها دولياً بسبب الفضائح التي تواجهها، بالإضافة إلى التحديات في جذب الاستثمار الأجنبي، حيث تقوّض قدرة الحكومة على توفير الخدمات الأساسية. إنّ تأثير الفساد يتجاوز الآثار الاقتصادية والمالية، التي تنعكس أيضاً على العلاقات الاجتماعية وثقة المواطنين، ففي وجود هذه الظاهرة المشؤومة، يتأثر الأفراد تأثراً مباشراً بالقلق، ويفقدون الأمل في إمكانية بناء مستقبل أفضل، وفي الوقت نفسه، يسود جو من عدم المساواة والظلم والغبن، حيث يستفيد الأثرياء والمتسلطون وأصحاب النفوذ على حساب الفقراء. ولمكافحة هذه الآفة، من الأهمية بمكان تنفيذ بعض التوصيات التي يمكن أن تساعد في تقليل الفساد والوصول إلى مجتمع أكثر عدالة وشفافية.
أولاً، وقبل كلّ شيء، يلعب التعليم دوراً محورياً في القضاء على الفساد، بحيث يجب أن تتضمّن المدارس إلزامية مناهج دراسية تركز على الأخلاق والنزاهة من خلال تثقيف العقول الشابة حول الآثار السلبية للفساد، عبر رفع مستوى الوعي.
ثانياً، ينبغي وضع تدابير قانونية صارمة لردع الفساد، عبر مواكبتها بالتشريعات العصرية الحديثة، بما يضمن أن يواجه المُدانون بالفساد عقوبات قاسية وصارمة، وإرسال رسالة واضحة مفادها أنه لن يتمّ التسامح مع الفاسدين.
ثالثاً، الشفافية والمساءلة عنصران أساسيان في مكافحة الفساد، وينبغي على الحكومة أن تكون أفعالها ومعاملاتها في متناول المواطنين وإمكانية الإطلاع عليها ساعة يشاؤون.
رابعاً، اعتماد السند الرسمي الإلكتروني الذي يساهم في الحد من الرشوة ويسهّل المعاملات ويخفف التكلفة على الدولة والمُكلف.
إنّ آفة الفساد ليست فقط مجرد مشكلة قائمة بحد ذاتها بل هي قضية مُلّحة يجب معالجتها من أعلى الهرم ونزولاً لأنها تؤثر على المجتمع بأكمله، حيث يخلق ساحة لعب غير عادلة، علاوة عن ذلك إنها جريمة العصر التي ترتكب بحق المال العام عبر التحايل على القوانين بمساعدة بعض الفاسدين المُرتشين في الإدارة وهو تحدّ يجب تفاديه ومواجهته بمقاربات متعددة الأوجه، عبر التدابير القانونية، والحوكمة الرقمية، ومشاركة المواطنين، لبناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً، لنترك وراءنا إرثاً جميلاً يمكن للأجيال القادمة أن تفخر به.
نجحت دولة سنغافورة في ثمانينات القرن الماضي، حيث كانت معروفة بمستويات الفساد العالية ولكن بفضل جهود الحكومة وإصرارها على مكافحته، تمكنت سنغافورة من تحقيق تقدم كبير، وتراجعت مستويات الفساد في البلاد إلى أدنى مستوياتها، حيث تمّت صياغة قوانين صارمة وتمّ تنفيذها، وتحسنت إدارة الوزارات والمؤسسات بشكل كبير، وأدّى ذلك إلى زيادة الثقة بالحكومة وبالنظام القضائي.
إنّ معنى التخلُف عن مكافحة الفساد، على الأقل من الناحية اللُّغوية، هو البقاء خلف الركب، والتأخر، والمجتمع المتخلف هو مجتمع تجاوزته الأمم في مضمار التقدم والحضارة وعلينا أن نبدأ بخوض غمار تجربة الإصلاح والغوص في أعماقها، ومعلوم بأنّ مكافحته ليست سهلة لكنها جديرة بالتضحيات وضرورة للتطور الشامل والتنمية المُستدامة ويجب الإصرار على تأمين المناخ المناسب لسُبل إنجاحها، حتى لا يبقى الوطن مصلوب على حائط الفاسدين وحتى لا تكبر كرة النار وتكمل مسيرها نحو الهاوية، يجب على الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها الأساسية وتضمن حماية مواردها ومصالح مواطنيها.
ختاماً، «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» /١١٧ هود/.
في إحدى قرى الريف البريطاني أقيم حفل على شرف قسٍّ بمناسبة تقاعده، فتمّ اختيار رئيس البلدية لإلقاء كلمةٍ بهذه المناسبة. تأخّر المتحدّث عن الحفل فقرر القسّ أن يقوم بنفسه بإلقاء كلمة وقال: «قبل 25 عاماً تسلّمت عملي، أخذتُ في البداية انطباعاً سيئاً عن المنطقة والسبب أنّ أول شخصٍ اعترف أمامي، بأنّه سرق تلفازاً وكذب على الشرطة ثم سرق مالاً من أبويه واختلس مبلغاً ضخماً من صاحب العمل وتاجر بالأدوية المهرّبة! صُدِمتُ في البداية، لكنني عندما تعرَّفتُ إلى سكّان المنطقة عرفتُ كم هم طيبون وأنّ أول رجلٍ اعترف لي لم يكن يمثّلهم». وعندما أنهى القسّ كلمته، دخل رئيس البلدية واعتلى المنصة واعتذر عن التأخير ثمّ قال: «لن أنسى أبداً عندما أتى القس إلى بلدتنا المتواضعة، لقد كان لي الشرف أن أكون أول شخص اعترف أمامه»!