الدم بالدم ولا تَرَفَ للتجريب بأشواط إضافيّة
د. حسن أحمد حسن*
الصراعُ أزليٌّ بين الحق والباطل… بين الخير والشر… بين عشاق الحياة بعزة وكبرياء، وبين تجار الدم والقتل والإبادة… بين مَن يلاقون الموت بلا خوف ولا وجل يقيناً منهم أنه بوابة العروج إلى سماء الخلود، وبين مَن يفرّون من الموت وهو ملاقيهم مهما تواروا وحاولوا التواري والهروب، فتتكرّر ميتتهم مرات ومرات قبل بلوغها…
نعم إنّ الصراع أزليٌّ ودائمٌ، والبونُ شاسعٌ وجوهريٌّ بين أنصار النور والألق والضياء، وبين جحافل الظلاميّين قديماً وحديثاً على اختلاف مسمّياتهم وتنوّع هيئاتهم ومرجعياتهم الإثنية والسياسية والدينية والاجتماعية، وإنْ كان الظلاميّون الجدد أشدّ خطورة وكارثيّة من كل من سبقهم من طواغيت وفراعنة، ولذا ظنوا أن حصونهم مانعتهم فانهارت الحصون وتدكدكت القلاع وهُدِمت سقوف الهياكل على رؤوس من فيها. ولعل الاطمئنان الخادع جراء الوهم المعشش في رؤوس من يشغلون روافع الشر ومفاصله في الإدارة الأميركية يشكل عقب آخيل الذي لا تخلو منه إمبراطورية تمدّدت واستطالت عبر التاريخ، وفي نهاية المطاف تداعت وتهاوت بفضل دقة التسديد وإصابة ذلك العقب بشكل مفاجئ أو متدرج. وسيان لدى عشاق النور بأية طريقة يتمّ فيها تحييد فراعنة العصر وزبانيتهم على اختلاف ترتيب أهميتهم في سلم الغطرسة والصلف والعنجهية القاتلة، وإذا كان التحييد متعذراً بالضربة القاضية، فهو ليس كذلك، بل إنه ممكن ومتاح، وضمن حدود المستطاع بعدد النقاط ومراكمتها إلى أن يبلغ أولئك عتبة اليأس من إمكانية البناء على قدراتهم التدميرية المسخرة لنبش القبور وبعث الجاهلية الأولى في أبشع صورها الدموية القائمة على تشييء الإنسان ـــ أجلّ مخلوقات الله على أرضه ــ وامتهان كرامته بجبروت القوة الخشنة منها والناعمة، على الرغم من يقين أولئك القتلة بأن ما يمتلكونه من ترسانة أسلحة متخمة بوسائل القتل والإبادة والتدمير كفيل بإفناء البشرية مرات عديدة، ومع ذلك هم أعجز من أن يصادروا إرادة من يعشقون الموت ليهبوا الحياة بعزة وكرامة لشعوبهم وقضاياهم العادلة مهما بلغت التضحيات. وهنا يصبح لزاماً على أنصار «حق القوة» الإنصات باهتمام إلى ما يطالب به معسكر «قوة الحق» المدعوم بالإرادة واليقين بالقدرة على اجتراح النصر رغم أنوف طواغيت الكون وسدنتهم والمنضوين تحت عباءتهم القذرة، والمطبّلين لهم المسبّحين بسراب مجدهم وديمومته صباح مساء.
لا يحتاج المتابع المدقق في تطور الأحداث وتداعياتها إلى كبير عناء ليستنتج أن نتنياهو وحكومته المتطرفة سوَّقوا كذبة وصدقوها بعد التكرار المملّ، فتقمّصوا دور الساعي لتوسيع دائرة الحرب، وهم عاجزون عن التعامل مع تداعياتها على جغرافيا غزة المحاصرة منذ عقد من الزمن، يهدّدون ويتوعّدون ويتحرّشون بأكثر من طرف من أطراف محور المقاومة، ملوّحين بالهروب إلى الأمام، ويتوسّلون إدارة بايدن أن تصدر التصريحات التي لا تسمح باشتعال المنطقة، وبتناغم مفضوح يسارع البيت الأبيض لتلميع الكذبة فيرسل المندوبين ويوزع الرسائل عبر أتباعه الذين يظهرون بلبوس الناصح الأمين الحريص على مصلحة أبناء المنطقة، في الوقت الذي يدرك فيه القاصي والداني أنهم يتقاسمون الأدوار، ويوزّعون المهام، لعلهم يقتربون من أسوار ما يمكن تسميته «الانتصار بالرعب» أو الأخذ بالسياسة لما عجزوا عن تحصيله بالحرب، وهيهات لهم أن يفلحوا، ولا داعي للغوص في التحليل وكشف المستور. فالواقع القائم يؤكد عجز تل أبيب وكل من يدعمها عن إحكام السيطرة على أي جزء من قطاع غزة بعد مرور أربعة أشهر ونصف الشهر على إطلاق يدهم في القتل والتدمير والإبادة، ودعم ذلك بحرب الحصار والتجويع وقطع المياه وقصف المستشفيات والمدارس والكنائس والجوامع وتسوية أكثر من ستين في المئة من المباني بالأرض. والنتيجة التي أحرزوها حتى الآن ما تزال تراوح على حواف الحدود الصفرية لكل ما يتعلق بالأهداف الاستراتيجية التي أعلنوها.
الأمر ذاته ينطبق على الأميركي ورأس الدهاء البريطاني، فها هو اليمن الخارج من حرب ضروس والمحاصر لسنوات خلت يقف بشموخ ويتحدى القوة البحرية الأعظم في العالم ويغرق سفنها، ويمنع أي مرور عبر مياه البحر الأحمر باتجاه موانئ الاحتلال، وإذا كانت متطلبات خوض الصراع ببعده الاستراتيجي اقتضت في السابق التظاهر بتصديق الكذبة المشتركة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو. فالأمر لم يعد كذلك بعد حماقة تل أبيب وما خلفته عدوانيتها وتوحشها من ارتقاء مواطنين مدنيين لبنانيين، ولا سيما أنّ صادق العهد والوعد أعلنها صراحة أنّ الدم بالدم، ولن يتمّ الاكتفاء باستهداف البنى التحتية ولا الاكتفاء بتدمير آليات أو أجهزة تجسّس. وهذا ما أوضحه سماحة السيد حسن نصر الله ــــ نصره المولى ــــ بقوله: (أنا أقول لكم أيّها الإخوة والأخوات ولكل السامعين للصديق وللعدو، نساؤنا وأطفالنا الذين قُتلوا في هذه الأيام في النبطيّة وفي الصوّانة وفي غيرها من قرى الجنوب سوف يدفع العدو ثمن سفكه لدمائهم دماءً). وأضاف سماحته: (هذه الدماء سيكون ثمنها دماء وليس مواقع أو آليّات أو أجهزة تجسّس، هذا جزء من المعركة يستمرّ، وليعلم العدو بعد ذلك أنه لا يستطيع أن يتمادى وأن يمسّ بمدنيينا وخصوصاً بنسائنا وأطفالنا).
من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ العدو وداعميه يظنون أن قدرة الشعب الفلسطيني في غزة على الصمود والصبر تتآكل، ومع استمرار التوحش ستصل حدودها الدنيا، ولا سيما أنّ غالبية أولئك من الأطفال والنساء والعجائز والمرضى المحرومين من الماء والغذاء والدواء والمقيمين في العراء. وكل هذا لا يعني رفع راية الاستسلام، ولا انتظار الفرج من الغرب المنافق، ولا ممن ارتضوا أن يكونوا مطية لسيدهم الصهيو ـــ أميركي الذي يستخدمهم كسهام مسمومة يغرزها في صدور أبناء جلدتهم وعقيدتهم من أشقائهم نسباً ولحماً ودماً وديناً وقومية. والفرق الرئيس يكاد ينحصر بخلو أتباع الشيطان وخدمه من صفة الإنسانية، وكلّ ما ذكر لا يمنح حكومة نتنياهو ولا إدارة بايدن ترف الوقت لإعادة تجريب حظهم العاثر بأشواط إضافية يأملون أن يغيّروا فيها النتيجة الكارثية التي تمخضت عنها الموجة الأولى من طوفان الأقصى. ويعلم أولئك القتلة أنّ محور المقاومة على يقين بأنّ الوقت يضغطهم أكثر. فالانتخابات الرئاسية الأميركية على الأبواب، وإدارة بايدن إلى مزيد من التعثر في سياستها الخارجية والداخلية، وأي مقامرة محكوم عليها بالفشل الذريع مسبقاً، ولذا هم يظهرون بمظهر الحريص على عدم توسيع دائرة الحرب ليس حباً بأبناء المنطقة، ولا رأفة بمن بقي حياً من الشعب الفلسطيني في غزة، ولا لسبب أخلاقي أو إنساني. فهذه الإدارة خلعت كلّ الأقنعة عن وجهها ووجوه أتباعها وظهرت على حقيقتها المتوحشة والمتعطشة لسفك المزيد من الدماء، وما يدفعها للتظاهر بعكس حقيقتها الشريرة هو يقينها بالعجز عن تحمّل تكلفة اتساع دائرة اللهب.
الأمر ذاته ينطبق على حكومة نتنياهو التي فقدت التأييد العالمي، وبدأت الأصوات التي ترفض وحشية تلك الحكومة تعلو وتزداد حدة إلى درجة طرد السفير الإسرائيلي كما فعلت البرازيل، فضلاً عن التشرذم والانقسام الداخلي الحادّ حتى داخل كابينيت الحرب المصغر. وفي كلّ يوم يمضي تتآكل أوراق نتنياهو والمتطرفين في حكومته العنصرية أكثر فأكثر. وهذا يؤكد أن القاتل الذي يترأس الحكم في تل أبيب لا يملك ترف الوقت لتجريب حظوظه من جديد، وعلى الجميع الانطلاق من حقيقة واحدة مفادها أن تحمل تكلفة توسيع دائرة الحرب تفوق الطاقة والقدرة على الاحتمال، مع الأخذ بالحسبان أنّ أطراف محور المقاومة اعتادت على التعايش مع سيناريوات كهذه، وبالتالي هي الأكثر قدرة على التعامل مع تداعيات أي تطورات قد تحدث، وفي أي اتجاه تكون، وعلى الآخرين وضع هذا الأمر على طاولة حساباتهم قبل التفكير بالقفز بين الحفر، لأنه محكوم بتسريع المصير المحتوم.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.