مقالات وآراء

طوفان الأقصى بين فائض القوة والقيمة المضافة

 غيث الجيوسي

قد يكون طوفان الأقصى واحداً من أهمّ العمليات العسكرية وأكثرها نجاحاً في التاريخ الحديث كما وصفه كثير من الخبراء العسكريين في العالمين العربي والغربي. ولكن بالإضافة إلى نجاح الجانب العسكري للطوفان والأهمية الهائلة التي مثلها في كسر صورة الردع التي شكلها الإسرائيلي في مخيلة العرب ممن حوله، فإنّ لنا أن نقاربه من زاوية أخرى وهي موقعه في معادلة فائض القوة والقيمة المضافة التي طرحها الأستاذ ناصر قنديل في كتابه «حزب الله: فلسفة القوة». كيف نرى الطوفان ضمن هذه المعادلة التي تشرح الثنائية اللازمة لنشوء الأمم: فائض القوة، والذي يعود على القوة العسكرية والاقتصادية الذي تملكه أمة ما لحماية نفسها والنهوض بشعبها، والقيمة المضافة التي تعود على أيديولوجيا معينة تطرح قيماً أخلاقية تسعى من خلالها إلى دفع الناس للإيمان بمشروعها كأمة. أين يأتي الطوفان ضمن هذه المعادلة؟
إذا نظرنا إلى النظام الغربي الاستعماري كمكون واحد يضم الولايات المتحدة وأوروبا و»إسرائيل» فهو يضمّ فائضاً من القوة ممثلاً بترسانة عسكرية رهيبة الحجم، ربما تكون الأكبر بالنسبة لما غيرها عبر التاريخ. فما هي قيمته المضافة إذاً؟ ربما تخطر على البال القيم الليبرالية التي سوّقها الغرب لنفسه وصور الديموقراطية وحقوق الأقليات مثلاً. ولكن الواقع أن لا وجود لذلك أبداً. كلّ تلك القيم ليست إلا نتاج عمل دعوي وتبشيري امتدّ على مدى قرون ليقدّم صورة واضحة لـ «حضارة» بنَت نفسها على سفك الدماء واستعمار البلاد واستعباد الشعوب. صور القيم المزعومة تلك تمّ بناؤها من خلال آلة دعاية جبارة امتدّت لقرون، وأقنعت شعبها وشعوبنا بأصالتها في كثير من الأحيان.
إحدى الطرق التي سلكتها الإمبراطورية الغربية باختلاق قيمة مضافة لا وجود لها كانت بحركة الاستشراق التي صوّرت الإسلام والعرب بطريقة مغلوطة على أنهم أمم متخلفة ورجعية تقمع المرأة والأقليات وشبقة بالمتع والشهوات. تستخدم آلة الدعاية الغربية تلك الصورة الاستشراقية لتقول لجمهورها: قيمتنا المضافة هي أننا عكس هؤلاء المتخلفين من أهل الشرق في كلّ شيء. وفي هذا فصّل الكاتب الفلسطيني جوزيف مسعد كثيراً حتى وصل في كتابه «الإسلام في الليبرالية» إلى أنّ هدفاً أساسياً من الاستشراق لدى العالم الغربي كان بناء صورة رجعية عن الإسلام لجمهوره الغربي ليتميّز هو عنها ويبيع هذا التميّز كقيمة مضافة.طبعاً الأمر لم يقتصر على جمهور الغرب وإنما امتدّ سرطانياً إلى جمهورنا من خلال آلة الدعاية الغربية المتمثلة بالمدارس والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني التي أغدق عليها النظام الغربي بأموال طائلة لتغسل عقول جمهورنا وتقنعه بتخلف حضارته كشرقي وتفوّق «حضارة» عدوه في الغرب. لقد رأينا نجاح هذه الحركة الدعائية بأشكال شتى عندنا كتعلق قطاعات واسعة من شارعنا العربي بالمعتقدات الغربية وتبنيه للفكر الليبرالي الغربي ولغته السياسية والاجتماعية، خاصة على مدى السنوات القليلة الماضية.
ما فعله طوفان الأقصى في سياق القيمة المضافة قد يفوق ما فعله في سياق عسكري على عظمته. من كان يظنّ أنّ أحداً سيقدر على نسف ذلك الصنم العملاق لليبرالية الذي أنشأه الغرب لنعبده جميعاً في هذا الوقت القياسي. طوفان الأقصى هدم في يوم واحد ما بناه الغرب على مدى قرون عديدة وقد بدأ يؤتي أُكُلاً في صفوف شعوبنا. كان الكثير منا يصغي بانتباه عندما يتحدث الخواجة الغربي عن مواضيع تمتدّ من حقوق الإنسان والطفل والمرأة والحقوق الجنسانية فضلاً عن مفهومه للديموقراطية وحريات التعبير عن الرأي.
الطوفان عرّى الغرب باقتدار عن كلّ تلك الادّعاءات بطريقة لم يفلح فيها كثير من مثقفينا الذين أفنوا حياتهم ليقنعونا بما أقنعنا الطوفان به في يوم واحد. من منا بعد اليوم يمكن له أن يأخذ شخصاً يتحدث بالقيم الغربية على محمل الجدّ وأن لا يرى فيه إلا منافقاً أو عميلاً؟ تخيّل منظمة غربية تحاضر فينا عن كيفية الحفاظ على حقوق الأطفال في بلادنا مثلاً وهم يموّلون أكبر مجزرة أطفال عرفها التاريخ الحديث! أو أن تحاضر فينا مؤسسة غربية عن الرقي بمستويات حرية التعبير وهم يعتقلون ويحاكمون من يتعاطف مع المقاومة أو حتى من ينتقد حكومة الاحتلال؟
محمد الضيف هدم في 7 أكتوبر 2023 صنم القيمة المضافة الغربية أمام أعيننا جميعاً. الضيف لم يفعل هذا معنا وحسب ولكنه هدم ذلك الصنم أمام عُباده الأوائل في عالم الغرب. المظاهرات الهائلة التي تخرج كلّ أسبوع في الغرب تأييداً للقضية ونقداً لحكومات الغرب ما هي إلا تجلّ لكفر أهل الغرب أيضاً بالأصنام التي بناها حكامه وعبدوها لقرون. ولربما كان هذا السبب وراء جنون المنظومة الغربية وانصياعها الكامل للإسرائيلي الفاشي، لأنها فقدت على حين غرة كلّ ما بنته، «تحويشة العمر»، وتساقطت كلّ أحلامها على عتبات غزة يوم الطوفان. لا دهشة في جنونهم وإعلانهم الحرب على العالم كله، وإيقافهم لخطوط التجارة في البحر الأحمر بدلاً من تهدئة الأمر لما فيه صالحهم قبل صالحنا. لو كان قد تبقى شيء من مخزون القيمة المضافة الغرب لَما اضطر لاستخدام فائض قوته بهذه البربرية، لأنه كان ليدرك أنّ قيمته المضافة ستعالج أيّ إشكالات على المدى الطويل بعد التهدئة. لهذا تتخبّط الآلة العسكرية للغرب لأنه متعطش إلى انتصار عسكري سريع يمكّنه من إعادة ترتيب صفوف قيمته المضافة في المستقبل. من هذا المنطلق، يمكن لنا أن نرى في طوفان الأقصى البداية الحقيقية لانهيار أحادية القطب الغربية، ولربما بالتوازي مع فشل الناتو الكبير في أوكرانيا، سبباً رئسياً لهذا الانهيار.
من كان يعرف أننا سنعيش هذه اللحظات المقدسة، التي يهدم فيها بعض الرجال، التي ستقول الأساطير فيهم أنهم عاشوا تحت الأرض في أنفاق حفروها على ضفاف المتوسط، من كان يدري أنّ هؤلاء المستضعفين هم الذين سينهون غطرسة الغرب الذي لا يُقهر ويهدمون صنمه العملاق أمام عُباده؟ نحن نعيش زماناً ينقش فيه هؤلاء المستضعفون فصلاً جديداً في كتاب التاريخ الذي أقنعنا كثير من فلاسفة الغرب أنهم كتبوا فصله الأخير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى