الإنزال الجوي الأميركي لغزة والإنزال الانتخابي…!
} أحمد عويدات
استمراراً لسياسة المناورة والمراوغة، وإمساك الجزرة من الوسط؛ تواصل إدارة بايدن إدارة الظهر للكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة. وذلك بالهروب إلى الأمام؛ سواء بتزيين وانتقاء الكلمات التي تجد صداها عند النظام الرسمي العربي، والداخل الأميركي، أو عبر مبادرات واهية تدور حول المشكلة وتمسك بخيوطها ولا تعالجها في صميمها، أيضاً من خلال زيارات مكوكية للمسؤولين في الإدارة بهدف خلط الأوراق، أوإعادة رصف المواقف؛ تماهياً مع المصلحة العليا لاستمرار الحرب في غزة، وتصفية القضية الفلسطينية كهدف استراتيجي لسياسة الروبوت العجوز ومشغليه.
في هذا السياق، يأتي الإنزال الجوي الدعائي للمساعدات إلى قطاع غزة حاملاً معه أهدافاً عديدة أبرزها محاولة تجميل موقف الإدارة الأميركية المهزوز أمام الرأي العام العالمي الذي يطالبها بموقف جدي لإيقاف الحرب؛ هذا الموقف الذي يضعها شريكاً مباشراً لدولة الاحتلال في ارتكاب المزيد من مجازر الإبادة الجماعية، والتي كان أخيرها وليس آخرها مجزرة الطحين الأحمر.
وثاني الأهداف، محاولة تهدئة مشاعر وعواطف الشعب الأميركي؛ خاصة بعد أن أقدم الطيار آرون بوشنل على حرق نفسه احتجاجاً على سياسة إدارته، وشراكتها بالعدوان على الشعب الفلسطيني؛ الأمر الذي لاقى سخطاً عارماً في أوساط الأميركيين في كثير من الولايات.
أما ثالث الأهداف فإنه يتمحور حول العزف على وتر الانتخابات الأميركية، ومخاطبة ومغازلة الناخب الأميركي، بعد أن شهد بايدن وحزبه الديمقراطي خسارة مدوية لأكثر من 110 آلاف من أصوات الجاليات العربية والمسلمة ومؤيديهم في ولاية ميتشغان المتأرجحة أصلاً، ناهيك أن عدد المشاركين في التصويت كان أقلّ بنحو 300 ألف من الذين شاركوا في الانتخابات السابقة التي فاز بها بايدن بنحو 150 ألف صوت، واعتبر آنذاك فوزاً ساحقاً، وبالتالي احتمال خسارة أصوات هذه الولاية لصالح منافسه ترامب بات واضحاً.
ومن ناحية أخرى، يهدف هذا الإنزال التكتيكي إلى التهرّب من استحقاقات الشرعية الدولية ومواثيقها وقراراتها، ولإظهار «إسرائيل» بأنها استجابت للإجراءات الاحترازية التي طالبتها بها محكمة العدل الدولية، وكذلك تفادياً للانتقادات المتواصلة للموقف الأميركي الشائن والمنفرد عالمياً باستخدام حق النقض الفيتو؛ الذي طالما عطل ويعطل اتخاذ مجلس الأمن قرارا بوقف إطلاق النار.
ويرى الأميركي بهذا الإنزال الطائش إرضاء للجانب الإسرائيلي بعدم وصول المساعدات بشكلها الواسع والكافي إلى شمال غزة؛ خشية وقوعها في أيدي المقاومة حسب زعمهم، حيث ما زالت المقاومة صامدة هناك، وكذلك لقطع الطريق أمام إدخال المساعدات من قبل أطراف أخرى ساخطة على الموقف الأميركي عبر المعابر البرية الأخرى، وأيضاً لتمكين مجلس الحرب الإسرائيلي من إعادة هندسة وترتيب المجتمع الغزاوي بعيداً عن سلطة المقاومة؛ من خلال التمدّد الجغرافي للقوات الغازية والسيطرة على معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وإحكام الحصار تماماً على القطاع للتحكم بالمساعدات وتعميق كارثة المجاعة والأوبئة، وانعدام الأمن الغذائي والصحي؛ وصولاً إلى إحداث انقسام بين الفئات المجتمعية وفصائل المقاومة على طريقة روابط القرى.
وفي المقام الأخير تهدف هذه الإنزالات إلى الالتفاف حول دور الأونروا، وتقويض مهامها وولايتها؛ كونها الطرف الأساسي الدولي المعني بهذه المهمة في إغاثة اللاجئين الفلسطينيين ولكونها الحاضنة الأممية لحماية حقوقهم. هذا التجاهل يأتي في سياق إيجاد بديل عنها؛ تماشياً مع المسعى الإسرائيلي الهادف إلى إنهاء دور الأونروا المرتبط عضوياً بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شرّدوا منها إبان نكبة 1948، وبالتالي الشراكة في تصفية القضية الفلسطينية.
إنّ هذه المناورة الأميركية الهزيلة إنما هي متاجرة جديدة بأرواح الغزيين، وفصلاً آخر من فصول حرب الإبادة وحرب التجويع بهدف التركيع؛ لأن هذه الإنزالات الجوية لا تفي بالغرض الإنساني الإغاثي للمدنيين، وإنقاذهم من كارثة المجاعة وشبح الموت؛ حيث تضيع هذه المساعدات بفعل الرياح في البحر، وبعضها يذهب إلى المستوطنات، والجزء المتبقي يمكن أن يقع في أيدي غير مستحقينها، فضلا عن عدم عدالة وتنظيم توزيعها على الأهالي. ولعلّ في تصريح إسماعيل الثوابته المدير العام للمكتب الإعلامي للحكومة في غزة تأكيداً لهذه الحقيقة بقوله: «إنّ عمليات الإنزال هذه تأتي في سياق الإلتفاف على الحلول الجذرية، ولي ذراع الواقع والميدان، والتماهي مع سياسة الاحتلال بتعزيز التجويع، وشراء وقت لصالحها، وترك المجاعة تفتك بالأبرياء».
إنّ جدية الموقف تتطلب فتح المعابر البرية السبعة كلها، وخاصة معبر رفح وهو مسؤولية مصرية أولاً وأميركية ثانياً، بدلاً من إضاعة الوقت بالحديث المشبوه حول فتح ممر بحري عن طريق قبرص؛ والذي من شأنه أن يكون طريقاً للتهجير القسري المنشود إسرائيلياً.
والأهمّ والأجدر قوله، أن لا جدوى من المساعدات إلا من خلال وقف فوري لإطلاق النار، وأن لا جدوى للإغاثة إلا عن طريق الهيئة المناطة بذلك وهي الأونروا.
في نهاية المطاف، إنّ أقصر الطرق إلى قطاع غزة، هو صدق وفعالية وإنسانية السلوك الأميركي تجاه ما يحدث الآن من كارثة إنسانية هناك، بعيداً عن البرباغندا الإعلامية والدعائية.
إن الإنزال التكتيكي الانتخابي لن يجدي إدارة بايدن نفعاً؛ خاصة بعد خسارة نحو 19% من أصوات المقترعين في مينوسوتا مؤخراً، ولن يعبّد الطريق للفوز بولاية جديدة؛ على الرغم من أنه يرضي قادة الكيان. ولن يقنع أيضاً الرأي العام العالمي والهيئات الدولية بجدواه، ولم ولن يبعث الطمأنينة بنفوس الأميركيين الواعين لمكائد السياسة البايدنية.