حروب المستقبل… الممرات البحرية وموازين الطاقة العالمية
نمر أبي ديب
أيقظت حرب أوكرانيا ومعها استراتيجية حصار الغاز أيّ حرب الطاقة التي أعلنتها روسيا في مراحل سابقة على أوروبا، الوعي العالمي حول ما يُعرف بالممرات المائية او «الشرايين المائية» التي يمكن من خلالها التحكّم بأمن الطاقة العالمي، وأيضاً في أيّ «حرب عسكرية مقبلة» لما يشكل قطاع الطاقة من حاجة استهلاكية، ذات أولويات وجودية في زمن الحروب «الرديفة كما الأصيلة»، يضاف إليها اليوم «المستقبل الاقتصادي» لمجمل الدول الكبرى، التي تلمّست بفعل العجز الأوروبي من جهة، وعدم قدرة الولايات المتحدة الأميركية على تأمين البديل الظرفي وحتى الاستراتيجي للغاز الروسي وسدّ العجز الأوروبي، «محورية الممرات المائية والشرايين» لا بل مركزيتها في تأمين وتثبيت خطوط الإمداد البحري والتواصل، يُضاف إليها اليوم جملة العوامل المؤثرة السياسية والجغرافية، وتحديداً المتممات الاستراتيجية المانحة على المستوى العسكري وحتى الاجتماعي، إمكانيات التفوق الميداني والحسم، في مراحل وجودية/ استثنائية، اختلطت فيها المعايير العالمية من جهة، واختلفت فيها جملة الموازين الميدانية، بحيث سجلت فيها الكفة العسكرية الراجحة، في ميادين الحروب الحديثة، انتقال فعلي لا بل حقيقي من «دول التفوق التكنولوجي»، إلى الشعوب كما الدول القادرة على تقديم ما بات يعرف بـ «عطاء الدم»، وأيضاً إلى دول «الاكتفاء الذاتي، أو القادرة على توفير البدائل» والمقصود امتلاك «مفاتيح الممرات المائية»، التي تعني بشكل مباشر الدول الكبرى، تحديداً دول الصدام العالمي.
في سياق متصل يُعتبر الأمن الوجودي لإمدادات الطاقة العالمية، أحد أبرز المحددات الاستراتيجية في السياسة الخارجية وحتى الدفاعية للدول الكبرى، وأيضاً لمجمل الدول المتقدمة تجارياً، ذات الفورة الاقتصادية، وأيضاً النشاط المالي الصاعد.
يُعتبر أيضاً أيّ الأمن الوجودي لإمدادات الطاقة العالمية، مقدمة استثنائية لبت وصياغة «قواعد اشتباك جديدة»، مؤسسة لمرتكزات عالمية وخطوط فصل جغرافية باتت تتطلبها اليوم خارطة النظام العالمي الجديد في مقدمته أمن الدول الكبرى «روسيا الاتحادية، والولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى الصين الشعبية.
السؤال الذي طرح نفسه اليوم واقعاً استثنائياً وملموساً في هذه المرحلة، تمحور حول جملة المؤثرات البرمائية، التي تتأثر بها نتائج «الصدام العالمي الجديد»، وموازين القوى الدولية، التي ترتسم بـ معاييرها خطوط وخيوط الفصل السياسي، كما العسكري، والاقتصادي، والبحري، على صفحات الخارطة العالمية الجديدة، ما قد يطرح علامات استفهام سياسية عديدة، وتساؤلات استبيانية من بينها: هل يشكل أمن الطاقة العالمي، مقدمة حوار استراتيجي لضبط إيقاع المشهد البحري كما العمل على ضمان حركة الملاحة، ومنع التداخل؟ أم تعتبر الممرات البحرية مكملاً ميدانياً لأكثر من مادة خلافية، و»نقطة تفوق أو ضعف» استراتيجي، تقود في مراحل حالية وأخرى لاحقة، إلى استدراج حسم عسكري استراتيجي يترتب على نتائجه تحديد الموازين النهائية، لمجمل الدول المؤثرة والفاعلة في بنية النظام العالمي الجديد.
ما تقدّم يفتح باب المداولة السياسية والبحث، في أكثر الممرات البحرية تأثيراً على «الانتظام الدولي»، وتحديداً أمن الدول الأساسية، ونخص في الذكر روسيا الاتحادية والصين الشعبية، كما الولايات المتحدة الأميركية، التي دخلت مع بدايات حرب غزة، مساحات المياه القاتلة، في البحر الأحمر باب المندب وهنا تجدر الإشارة إلى فرضية التوازن البحري ما بين القوى الدولية الكبرى والأساسية، تجدر الإشارة إلى مساحات التهديد البحري، التي يمكن من خلالها وضع الجميع بمن فيهم روسيا أميركا والصين في خانة «الاستهداف كما الردّ»، انطلاقاً من استراتيجية «البحر الأحمر ـ باب المندب» وتأثيره المباشر على الوجود والحضور الأميركي في المنطقة، مروراً بمضيق «ملكا» ومكانته (الجيومورفولوجية من جهة والجيواقتصادية) الذي يقع بين شبه الجزيرة الماليزية وإندونيسيا، كما تقع سنغافورة على طرفه، وهو يربط بين المحيطين الهندي والهادي، إضافة إلى بحر الصين الجنوبي، ويعتبر شديد الارتباط «بالأمن القومي الصيني»، وأيضاً بمستوى نمو قدرات الصين العسكرية إضافة لنشاطها الاستهلاكي المتمثِّل في «طلب الصين المستمر للطاقة»، من خارج حدودها البحرية.
تجدر الإشارة أيضاً إلى جملة الأوراق الاستراتيجية التي يجري تحريكها بناءً لأولويات سياسية وأهداف وجودية من بينها: «ورقة البحر الأحمر ـ باب المندب»، يضاف إليها أزمة تايوان ومشكلة «بحر الصين الجنوبي»، وغيرها من الأوراق البرمائية، التي يتمّ استنهاضها السياسي انطلاقاً من وجهة نظر سائدة، تتضمّن عدة مسلمات استراتيجية أبرزها: (من يسيطر على «مضيق ملكا» يتحكم بممرات ومسالك الطاقة الصينية)، ثانياً اعتبار الولايات المتحدة الأميركية، «الجهة الدولية الوحيدة» القادرة على إغلاق مضيق ملكا، بما يمثل من قيمة بحرية في مجال الطاقة وجزء لا يتجزأ من أمن الصين الاستراتيجي، بالتالي هل دخلت الولايات المتحدة الأميركية، كما الصين الشعبية مرحلة تحصين الممرات البحرية تحديداً في بحر الصين الجنوبي، أم دخل العالم أجمع مع ثلاثيته الدولية الصين أميركا وروسيا، إضافة إلى ما يمكن أن يتفرّع عنهم من دول أساسية وقوى نافذة بحكم الجغرافيا البحرية من جهة ومتطلبات الأهداف الاستراتيجية من جهة أخرى، ونخص بالذكر الجمهورية الاسلامية في إيران كما غيرها من الدول المعنية، المرتبطة بالممرات أو الشرايين المائية، مرحلة المواجهة البحرية الكبرى.
ما يجري اليوم على الساحتين الإقليمية والدولية يطرح على بساط البحث «البرمائي» أكثر من «اشكالية بحرية»، تتناول في متدرجاتها العملية، البعد الاقتصادي من جهة كما الأهمية العسكرية للدول المعنية في مجمل الممرات البحرية، التي باتت تتوزع على الشكل التالي:
مضيق هرمز: هو عبارة عن قنبلة موقوتة يمكن أن تؤدي في مراحل حالية ومقبلة إلى إحداث خرق جدي حقيقي في الجدار البحري الفاصل ما بين استراتيجية المصالح المشتركة «الصينية الإيرانية»، وبين المخاوف الأميركية القائمة على فرضية حصول الصين، على نفوذ استثنائي قادر على قلب موازين الطاقة العالمية، في مجمل نقاط الالتقاء العادية منها والرئيسية لشحنات البترول.
البحر الأحمر: يضمّ ثلاثة مضائق طبيعية تبدأ مع «باب المندب»، الذي يقع جنوب البحر الأحمر، ويشكل المنفذ الوحيد الذي يتحكم في مدخله الجنوبي، ويعتبر مفتاح التوازن العسكري في حروب المنطقة.
مضيق تيران: يشكل المدخل الرئيسي لخليج العقبة، وأيضاً لميناء «إيلات»، وهو يحظى بأهمية استثنائية نتيجة ارتباطه الوثيق بـ «الصراع العربي الإسرائيلي».
مضيق جوبال: يقع شمال البحر الأحمر باتجاه الغرب، ويعتبر البوابة الرئيسية إلى خليج السويس، وهنا تجدر الإشارة إلى الأهمية «الجيوإستراتيجية»، التي يتمتع بها البحر الأحمر، الذي يربط بين القارات الثلاث: (آسيا وأفريقيا وأوروبا)، كما يصل بين المحيط الهندي، وبحر العرب جنوباً والبحر الأبيض المتوسط في الشمال، يضمّ نقاطاً استراتيجية عديدة، من بينها: قناة السويس التي تعتبر المدخل الشمالي للبحر الأحمر، ونقطة التقائه بالبحر المتوسط.
يؤكد ما تقدّم على مركزية المواجهة البحرية في الحرب والمواجهات العسكرية المقبلة، وأيضاً على استراتيجية الممرات المائية، كما العمل على ضمان استمراريتها تحت العباءتين السياسية والعسكرية لتأمين مقومات الصمود من جهة، وضمان سياسات الحسم الوجودي في حروب الطاقة المستقبلية.
مع صراع المحاور البرمائية تقف الدول المعنية بالملفات البحرية كما غيرها من دول الاستنزاف، والحديث يشمل دولاً أساسية وقوى فاعلة، مؤثرة ومحيطة في جغرافيا «الممرات البحرية»، التي أخذت في باب المندب مساراً وجودياً استراتيجياً غير قابل للتراجع في هذه المرحلة، أو حتى للعزل، وهو حال الجبهات البحرية الأخرى التي لم يتمّ تشخيصها بعد، أو حتى «إزاحة النقاب» والكشف عن مجرياتها الفعلية التاريخية منها والحالية في بعدها الاقتصادي والسياسي، كما الإعلان عن أهدافها المبطنة، المخفية وغير المسرّبة حتى اللحظة.
السؤال هل يستيقظ العالم في مرحلة لاحقة على معارك بحرية متفرّقة، تفوق بدرجات ما يجري اليوم في «باب المندب»؟ أم ما يجري اليوم استعداد عالمي مرفق بحضور تكتيكي «لحرب نفوذ بحرية شاملة»، تكتب في نتائجها القوى المنتصرة خلاصات «برمائية» مؤسسة لإرادة وإدارة دولية حاكمة ومؤثرة، في بنية النظام العالمي الجديد…