أولى

ما مسارات المنطقة بعد الرد الإيراني الفاعل والرد الإسرائيلي الهزيل؟

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*

أما وقد انتهت أو كادت أن تُطوى صفحة الردّ والردّ المضاد التي فتحت بين إيران و»إسرائيل» إثر العدوان الإسرائيلي الذي استهدف القنصلية الإيرانية في دمشق، فإنّ المشهد الإقليمي والدولي المتشكل بعد هذه المواجهات لم يعُد الى ما كان عليه قبل العدوان الإسرائيلي، بل تمّ تشكله وتمظهره وفق لقواعد ومعادلات جديدة لم تكن «إسرائيل» وحلفاؤها كما يبدو يتوقعونها قبل العدوان.
فعلى الصعيد الإيراني أعقبت إيران ردها على «إسرائيل» الذي نفذته ليل 13/14 نيسان/ ابريل الحالي أعقبته بالإعلان عن مغادرتها منطقة الصبر الاستراتيجي الذي عملت به لأكثر من ثلاثة عقود ودخولها أو انتقالها إلى منطقة الردع الفعّال الذي باتت قادرة على ممارسته إثر نجاحها إبان مرحلة الصبر الاستراتيجي في توفير القدرات العسكرية الذاتية ونسج العلاقات التحالفية التي تمكنها من الدفاع الفاعل عن مصالحها، أما «إسرائيل» فقد ظهرت في موقع العاجز عن الدفاع عن الذات بشكل منفرد والمحتاج إلى دعم خارجي للنجاح في هذه المهمة. وهذا ما تجلى إبان الردّ الإيراني.
ففي مرحلة الصبر الاستراتيجي كانت إيران تعتمد في مواجهة التهديدات التي تواجهها، أساليب الدفاع السلبي وسحب الذرائع وابتلاع الخسائر، بالتوازي مع إظهار ما يمكن إظهاره من القوة التي تحصلها من خلال تصنيعها العسكري وعلاقاتها الخارجية، لأنّ المهمّ لديها في تلك المرحلة كان تجنّب الحرب حتى تحشد الطاقات بعد تنميتها وتطويرها، مع الثبات على المبادئ الأساسية للثورة الإسلامية، وقد نجحت إيران في هذه الاستراتيجية التي مكّنتها من اجتياز نفق طويل من الأخطار والمتاعب وتحمّلت فيها خسائر مؤلمة خاصة على صعيد العلماء والقادة العسكريين الذين طالتهم يد الإجرام في سياق سياسة الاغتيالات التي تمارسها أميركا و»إسرائيل» في الداخل الإيراني أو في الخارج والتي كان آخرها عملية تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق والتسبّب في استشهاد ثلة من القادة في الحرس الثوري.
وعندما قامت «إسرائيل» بجريمتها ضدّ القنصليّة الإيرانية، كانت تعتقد أنّ إيران وعملاً بـ «الصبر الاستراتيجي» لن تجرؤ على الردّ وستبتلع الخسارة خوفاً من خسارة أكبر، لكن إيران فاجأت العدو وحلفاءه عندما توعّدت بالردّ الموجع، وذلك بتعهّد صدر عن أعلى المستويات في إيران بدءاً بموقف مرشد الثورة الإمام الخامنئي الذي كان صارماً بقرار وجوب الردّ على العدوان بحيث لم يعد السؤال بعد موقفه هل تردّ إيران لأنّ مبدأ الردّ بات محسوماً بل أصبح السؤال متى وأين وكيف يكون الردّ في ظلّ تعقيدات ميدانية وسياسية تحكم المشهد في مسرح العمليّات برمّته.
فإيران تعلم أنّ «إسرائيل» محتضنة دفاعياً من قبل حشد من القوى الدولية والإقليمية التي لن تتخلى عنها كما تتعهّد باستمرار وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية التي تردّد صباح مساء التزامها بالدفاع عن «إسرائيل»، ثم أنّ إيران تعلم انّ الفشل في الردّ سيشكل خدمة استراتيجية كبرى للعدو وسيشجّعه على الإمعان في عدوانه وإجرامه، كما أنها تدرك انّ الهيبة والمصالح الأمنية والسيادية الإيرانية التي مسّت بالعدوان على القنصلية في دمشق لا يعوّض الخسائر فيها إلا ردٌ بقرار إيراني وبيد إيرانية وسلاح إيراني ومن أرض إيرانية، بمعنى انّ الردّ عبر وكيل أو حليف لا يحقق الأهداف من الردّ ولا يفي بالمطلوب.
في ظلّ هذه التعقيدات والقيود نفذت إيران ردّها على العدوان «الإسرائيلي» بعد أن خططت له ليستوفي شروط النجاح المطلوب ويحقق أهدافاً حدّدتها وكان التنفيذ على الوجه التالي:
1 ـ اختيار الهدف وميدان العمل: نجحت إيران في اختيار الهدف داخل فلسطين المحتلة وعلى مسافة 1100 كلم من الحدود الإيرانية وحدّدته بالقواعد الجويّة التي انطلقت منها طائرات «أف 35» التي استهدفت القنصلية لتعالجه بنار تنطلق من أرض إيرانية.
2 ـ تأمين الوصول الى الهدف ودور المُسيّرات فيه: نجحت إيران في التخطيط لمناورتها النارية بحيث تمكنت من إشغال القبة الفولاذية ومنظومات الدفاع الجوي لـ «إسرائيل» ولـ 7 دول أخرى تعمل للدفاع عنها إشغالاً حققته إيران بـ 185 مُسيّرة بدون طيار استعملتها لتستنزف القدرات الصاروخية لجبهة العدو ما كلفه إنفاقاً تعدّى المليار دولار ليواجه ما كلفته أقل من مليون دولار هي كلفة المُسيّرات. وهنا نفهم لماذا اختارت إيران مُسيّرة شاهد 136 التي لا تستطيع التحليق أكثر من مدة 10 ساعات فقط في حين أنّ مدة الطيران من إيران الى فلسطين المحتلة هي 9 ساعات، أيّ أنّ إيران أرسلت المُسيّرات لتسقط في فلسطين في مهمة استنزاف وفتح طريق سواء اعتُرضت أم لم تُعترَض وفي ذلك خداع عملاني وقع فيه العدو ما استنزف قدراته الصاروخية وفتح الطريق لصواريخ الدقة العالية الإيرانية للوصول إلى أهدافها.
3 ـ اختيار صواريخ الدقة العالية التأثير والتدمير. حيث نجحت القيادة الإيرانية باعتماد سلاح التأثير المناسب كماً ونوعاً حيث اختارت 30 صاروخاً من صواريخ الدقة العالية وهي تعلم انّ الدفاع الجوي المعادي سيسقط نسبة كبيرة منها، لكنها خططت ليصل أكثر من 10 صواريخ الى الأهداف ونجحت في ذلك ما أذهل العدو وأربكه وأكد على نجاح إيران في الردّ.
وبهذا تمكّنت إيران من خلال هذا الردّ المخطط والمدروس من تنفيذ المهمة والنجاح في القيام باستطلاع استراتيجي بالنار وقفت فيه على حجم التحالف الدولي القائم لحماية «إسرائيل» في مواجهتها وحدوده، كما أنها أظهرت قدرات عسكرية فكرية وعملانية ولوجستية هامة مكّنتها من إرساء معادلات ردع ستحكم الإقليم من الآن وصاعداً. هذا النجاح مكن القيادة الإيرانية من الإعلان عن مغادرة منطقة الصبر الاستراتيجي والانتقال الى مرحلة الردع الفعال الناشط. وهذا ما أربك العدو «الإسرائيلي» وحلفاءه ومنعه من التصرف الفوري كما هي عادته وممارساته خلال مرحلة الصبر الاستراتيجي.
لذلك رأينا كيف أنّ الردّ «الإسرائيلي» على إيران كان هزيلاً ضعيفاً وكان الأجدى لـ «إسرائيل» ان لا تردّ كما قال بعض خبرائها، لأنّ في الردّ الهزيل خسارة إضافية؛ وهذا ما حصل واستفادت منه إيران أيضاً، لأنه جاء على شكل إقرار «إسرائيلي» بواقع جديد تشكل إثر هذه المواجهة. واقع يقول بأنّ «إسرائيل» باتت تتهيّب المواجهة مع إيران وأنها باتت مردوعة تخشى القدرات الإيرانية، إقرار «إسرائيلي» ميداني كان المشهد في مسرح العمليات بحاجة اليه ليؤرّخ بعده لمرحلة جديدة من المواجهة بين المشروعين المتحركين في الإقليم: المشروع الاستعماري التسلطي بقيادة أميركا وعموده الفقريّ «إسرائيل» ومشروع التحرّر الاستقلاليّ الذي يعمل له محور المقاومة المتشكل من إيران وسورية واليمن والمقاومات في لبنان وفلسطين والعراق.
وأصبح منطقياً وواقعياً اليوم القول بأنّ منطقة الشرق الأوسط باتت محكومة بعد هذه المواجهة بمعادلات جديدة تقوم على الردع المتوازن بحيث تستبعد حاضراً الحرب الإقليمية الواسعة والحاسمة التي بات دعاة المشروع الاستعماريّ يتهيّبونها لأنهم لا يرون فيها مخرجاً يحقق مصالحهم أو يحدّد خسائرهم فيها، بعد أن أفلتت قيادة الحسم والإنجاز من يدهم وبعد أن امتلك محور المقاومة القدرات على المواجهة دون أن يدّعي هو الآخر بقدرته اليوم على الحسم والتحرير الشامل بل يثق بأنّ مساره في تحصيل النقاط هو مسار مضمون النتائج، رغم ما فيه من مصاعب وخسائر، لكن الفكرة الأساس التي يتصرف على أساسها الموضوعيون من المعنيين الآن هي انّ خط دعاة الاستعمار هو خط هابط يتراجع وخط دعاة التحرر هو خط صاعد يتقدّم وانّ مسألة ؟إعلان انتصاره النهائي هي مسألة وقت فقط في حين أنّ آمال المشروع المعادي تتراجع وتتبخر.

*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى