اللعب مع الكبار!
} د. محمد سيد أحمد
جاء الصراع الإيراني – الصهيوني الأخير ليستحوذ على اهتمام الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي، فإيران شئنا أم أبينا من الدول الإقليمية الوازنة في سياسة المنطقة. وبعيداً عن العواطف، والمواقف الايديولوجية، يمكننا القول بأن إيران التي شهدت أكبر حملة عقوبات وحصار اقتصادي غربي في العقود الأربعة الأخيرة، ومعها أكبر حملة تشويه، بواسطة الآلة الإعلامية الغربية الجهنمية الجبارة، التي تقوم بغسل أدمغة العقل الجمعي العالمي، إلا أنها تمكنت من الصمود وبناء مشروع تنموي مستقل، أصبحت على أثره واحدة من القوى الإقليمية الكبرى التي يعمل لها ألف حساب، واستطاعت مؤخراً أن تعلن عن بناء مشروعها النووي، وأن توجد لنفسها مكاناً وسط الكبار على الساحة الدولية.
ويكفي أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين قد اتهموا إيران بأنها هي من يمدّ روسيا بالطائرات المُسيّرة التي تستخدمها في حربها ضد أوكرانيا. وهذا في حدّ ذاته يعني أنّ هناك اعترافاً ضمنياً بأنّ إيران قد تفوّقت عسكرياً على كثير من الدول الغربية في تصنيع المُسيّرات الحربية لدرجة جعلت كثيراً من هذه الدول يطلب شراء المسيّرات الإيرانية. والأمر نفسه ينطبق على تركيا التي تشكل هي الأخرى دولة وازنة في سياسة المنطقة، حيث تمكنت من دخول حلف الناتو، وقامت بعقد تحالف قوي مع الولايات المتحدة الأميركية، وقامت بتنفيذ الأجندة الأميركية في المنطقة، وقامت أيضاً بتصنيع مسيرات أرسلتها لأوكرانيا وهو ما يعني أنّ هناك تفوّقاً تركياً في هذا المجال، الذي تتفوّق فيه الولايات المتحدة الأميركية على باقي دول العالم. وبالطبع يأتي العدو الصهيوني تالياً للولايات المتحدة الأميركية في تصنيع الطائرات المسيّرة، هذا إلى جانب امتلاكه لترسانة نووية، ودعم أميركي وغربي منقطع النظير مما حوّله لقوة وازنة في سياسة منطقتنا رغم وجودها الاحتلالي وغير الشرعي.
وفي ظل الأحداث الأخيرة والصراع الإيراني – الصهيوني وجدنا أصواتاً عربية تحاول وصف ما يحدث بعيداً عن العقلانية، حيث تمّ وصف حالة الاحتقان والصراع بأنها مسرحيّة هزلية بين الطرفين يتم إخراجها بواسطة الولايات المتحدة الأميركية. وهنا وجب التوقف قليلاً للتأكيد على أن وصول الاحتقان والصراع بين إيران – والعدو الصهيوني لحالة حرب مفتوحة وشاملة يعني أننا قد دخلنا في حرب عالمية ثالثة، ذلك لأن كلا الطرفين يشكل قوة وازنة في المنطقة وتقف خلفه قوى دولية كبيرة لها مصالح استراتيجية في هذه البقعة الجغرافية الهامة من العالم. وبالتالي ما يحدث الآن من صراع يمكن وضعه في خانة الحرب الباردة بين اللاعبين الكبار في العالم الولايات المتحدة الأميركية والغرب الرأسمالي الداعمين للعدو الصهيوني وروسيا والصين الداعمين لإيران. وبالتالي إذا كانت هناك بالفعل مسرحية فهي مسرحية يشارك فيها اللاعبون الكبار في المنطقة بينما يغيب عنها الكومبارس وهو المصطلح المناسب للعرب على الخريطة الإقليمية والدولية في اللحظة الراهنة.
وفي محاولة توصيف المشهد الراهن في منطقتنا، وكما أكدت بعيداً عن العواطف والايديولوجيا، فيمكننا القول إن هناك ثلاث قوى وازنة في منطقتنا تمتلك ثلاثة مشاريع للسيطرة وهي تركيا وإيران والعدو الصهيوني. وقبل الدخول في التفاصيل يجب التأكيد على بعض الحقائق التاريخية، وأولى هذه الحقائق أن تركيا دولة من دول منطقتنا جارة تاريخية لها حقوق في جغرافية المنطقة مثل حقوقنا كعرب. وثانية هذه الحقائق تتعلق بإيران وما ينطبق على تركيا ينطبق عليها فهي أيضاً دولة من دول منطقتنا وجارة تاريخية لها حقوق مثل حقوقنا. وثالثة الحقائق تتعلق بوضع العدو الصهيوني المغتصب للأرض العربية والقابع على غالبية جغرافية فلسطين وبعض جغرافية الأردن وسورية ولبنان، ولا زال يطمع في المنطقة الجغرافية الواقعة بين النيل والفرات بالكامل. فهذا العدو ليست له أي حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة، ولا يجب أن يكون موجوداً بيننا أو بجوارنا من الأساس.
وإذا انتقلنا لتوصيف المشهد الراهن في ضوء الحقائق التاريخية السابقة يمكننا القول إنّ هناك ثلاثة مشاريع تحاول فرض سيطرتها وهيمنتها على منطقتنا في ظلّ التنافس والصراع الإقليمي، ويأتي المشروع التركي في المقدّمة، وهو يسعى للتمدّد داخل منطقتنا العربية بدوافع مختلفة منها ما هو مشروع مثل الحفاظ على الأمن القومي التركي، ومنها ما هو غير مشروع بمحاولة إعادة دولة الخلافة المزعومة وهو ما يُعدّ احتلالاً صريحاً لمجتمعاتنا العربية، وما تقوم به تركيا من احتلال لبعض الأراضي العراقية والسورية إلى جانب تدخلها في ليبيا خير شاهد وخير دليل. وبالطبع تتعاون تركيا في تنفيذ مشروعها مع بعض القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية السارق والناهب الأكبر لثروات منطقتنا العربية، إلى جانب الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية.
والمشروع الثاني هو المشروع الإيراني، وهذا المشروع يحاول التمدد داخل حدود منطقتنا العربية ليس بهدف احتلالها أو سرقة ونهب ثرواتها ولكن بدافع الحفاظ على الأمن القومي الإيراني، الذي يهدَّد بفعل تغلغل وهيمنة بعض القوى الاستعمارية الغربية على بعض مجتمعاتنا العربية المتاخمة بحدودها مع إيران.
وثالث هذه المشاريع هو المشروع الصهيوني الذي يحاول التمدّد للسيطرة على أكبر جزء من منطقتنا العربية بهدف سرقة ونهب ثرواتنا من ناحية واغتصاب تاريخنا من ناحية أخرى. وهو بالطبع مدعوم من بعض القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي لهذا العدو الصهيوني، ويحاول على مدار العقود الخمسة الماضية اختراق مجتمعاتنا العربية بكلّ الطرق والوسائل، وتمكن من توقيع اتفاقيات سلام مزعومة مع بعض الدول العربية بدأت بكامب ديفيد مصر 1978، وأوسلو فلسطين 1993، ووادي عربة الأردن 1994، ثم اتفاقيات تطبيع مؤخراً مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب في غضون الخمسة أشهر الأخيرة من عام 2020.
وإذا كانت هذه هي حقيقة المشهد الراهن فيجب الاعتراف أولاً بغياب المشروع العربي، وغياب العرب كقوى وازنة في المنطقة، وبالتالي غيابنا كلاعب رئيس بين الكبار على الساحة الدولية، لذلك لم نستطع وقف العدوان الصهيوني على غزة، ولم نتمكن من إدخال المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر هناك، على الرغم من أننا الأوْلى بفلسطين من تركيا وإيران، وبدلاً من الهجوم على إيران ومحاولة التسفيه من دورها الداعم للمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدو الصهيوني، تجب علينا إعادة بناء المشروع القومي العربي، ثم ترميم علاقتنا مع هؤلاء الجيران التاريخيين – تركيا وإيران – كي نتمكن من اللعب مع الكبار ومواجهة العدو الصهيوني والانتصار عليه. اللهم بلغت اللهم فاشهد.