حرية الرأي والتعبير المزعومة في أميركا والغرب… والسر: غزة العزة
} د. جمال زهران*
الله عليك يا غزة العزة… رمز الصمود الأسطوري والتصدي، ورمز المقاومة. فما يحدث الآن، يؤكد ما سبق أن قلناه في مقالات سابقة، إنّ «طوفان الأقصى» وغزة سيحكمان العالم، بلا جدال. فهناك نظم ستسقط، وسيرحل حكام (رؤساء وملوك)، وستسقط عروش، عالمياً وإقليمياً، وكأنّ العالم والتاريخ يعيد كتابة نفسه. فما حدث بعد أحداث كبرى هو نفسه، وفي مقدمتها نهاية الحرب العالمية الثانية، رسب الناجحون والمنتصرون، وخرج المنهزمون، وتغيّر العالم! والشيء نفسه حدث بعد حدث النكبة في 1948م، حيث تغيّر الإقليم وفي المقدمة انبعاث الثورات في مقدمتها ثورة 23 يوليو 1952م، وسقطت عروش ونظم، وخرج الكثيرون في العالم. والحدث ذاته عند تأميم قناة السويس في 1956م، وفي نكسة 1967م، وعقب انتصار أكتوبر 1973م، وعقب حرب تحرير الكويت في مواجهة الغزو العراقي عام 1990م، وتكرّر المشهد في أعقاب العدوان الأميركي على العراق واحتلاله في عام 2003م، بعد احتلال أفغانستان في 2001م!
لذلك ليس من المستبعَد، بل من المؤكد أن يشهد الإقليم تغييرات جذرية، بدأت بوادرها، وكذلك النظام العالمي، وفي المقدمة حتمية رحيل إدارة بايدن الصهيونيّة!
فالتداعي الكبير الآن لما حدث في السابع من أكتوبر، وما بعده من حرب إبادة جماعيّة، يقوم بها الكيان الصهيوني، ضد الشعب الفلسطينيّ في غزة، هو تلك الحركة الجماعية لطلاب الجامعات التي انطلقت منذ شهور في جامعة هارفارد، ثم جامعة بنسلفانيا، وكان من نصيب رئيستي الجامعتين اللتين انضمّتا إلى الطلاب الداعمين للقضية الفلسطينية، وضدّ الكيان الصهيوني وممارساته السلبية ضد شعب غزة، أن مورست الضغوط من اللوبي الصهيوني في أميركا، حتى تمّت استقالتهما!! ثم منذ عدة أيام تفجّرت المظاهرات والاحتجاجات، والإضرابات، واستمرار إقامتها (الاعتصامات) في داخل الجامعات. وكانت البداية هي جامعة كولومبيا، التي تترأسها سيدة من أصول مصرية، التي واجهت هذه المظاهرات بالقمع (متصوّرة أنها ترأس جامعة عربية!)، واستعانت بالسلطة والشرطة الرسمية، لفضّ هذه المظاهرات، وتمّ اعتقال أكثر من (100) طالب! وكان من نتاج ذلك تفجّر المظاهرات في أنحاء الجامعات الكبرى في أميركا حتى وصلت إلى أكثر من (75) جامعة، ولا تزال المظاهرات فيها والإضرابات وافتراش الخيام والاعتصامات داخل الجامعات، تحت لافتات كبيرة، ومن أهمّها: دعم القضية الفلسطينية، ووقف الحرب الإجراميّة التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد شعب غزة، ووقف تصدير الأسلحة، وإعلان رفض سياسات حكومة بايدن، ووقف الدعم لدولة الكيان والمسماة بـ «إسرائيل».
أصبحنا أمام مشهد جديد في الداخل الأميركي، يذكّرنا بانتفاضات الطلاب الأميركيين، في الفترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفي رصد لهذه الاحتجاجات التي وصلت تسميتها بثورات الطلاب ضد الإدارة الأميركيّة الحاكمة، بلغ عددها: (10) احتجاجات، الأول: في (1960م).. اعتصامات غرينسبورو، حيث كانت هناك تفرقة عنصرية، والنتيجة: إلغاء هذه التفرقة التي حدثت في مدينة (غرينسبورو). الثاني: في عام (1968م)، حيث طالب المتظاهرون بتركيز المنهج التعليمي للجامعة على تاريخ وثقافة الأميركيين الأفارقة، وإنشاء نظام قضائي، بجامعة (هوارد). والثالث: في عام (1969م)، حيث حدثت الاحتجاجات في جامعة هارفارد، والنتيجة هي إنشاء قسم للدراسات الأفريقية الأميركية، والرابع: كانت انتفاضة طلاب في أميركا ضد حرب فيتنام (1968م)، والخامس: في عام (1970م)، حيث حدثت الاحتجاجات مرة أخرى في جامعة كينث أوهايو، ضدّ الحرب الأميركية في فيتنام. والسادس: في عام (1984م)، حدثت الاحتجاجات بخصوص الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا، بالضغط على جامعتهم لسحب استثماراتها من جنوب أفريقيا. والسابع: في عام (1985م)، في جامعة كاليفورنيا، والنتيجة سحب استثمارات مليارية من حكومة الفصل العنصري في يوليو عام 1986م. والثامن: في عام (1999م)، في جامعة ميشيغان، الأمر الذي دفع الجامعة إلى تشكيل لجنة استشارية لمكافحة العمل القسري. والتاسع: في عام (2014م)، في جامعة هارفارد، حيث استلقى المشاركون المتظاهرون والمحتجون، بأنهم موتى، وانطلقت الاحتجاجات في إطار حركة «حياة السود مهمة». والعاشر: في عام (2019م)، في نيويورك، حيث نتج عنها، تغيّب الطلاب في أكثر من (130) مدينة عن المحاضرات، وذلك بسبب التغيّرات في المناخ، وضد الرأسمالية التي تنتهك المناخ، وتضرّ به، وهو الأمر الواقع ضد الشعوب!
ويلاحظ من واقع هذه الاحتجاجات، أنها كانت تدافع عن قضايا عامة، مثل وقف التمييز العنصريّ في جنوب أفريقيا، وضرورة انتهاء الحرب الأميركية في فيتنام، بل ضمن ذلك التمييز داخل الولايات المتحدة، وضد أضرار الرأسماليين بالمناخ، وضرورة إعادة رسم السياسات. إلا أنّ هذه الإضرابات كانت محدودة بالمكان والزمان.
إلا أنّ هذه المظاهرات التي يصفها بعض المحللين، بأنها ثورة جديدة داخل أميركا يقودها الطلاب، اتسمت باتساع رقعتها أفقياً، ويقترب عدد الجامعات من المئة جامعة في جميع الولايات الأميركية، وهي نذر خطير، وغير مسبوق. ومما يُسهم في اتساع هذه الثورة الطالبية الأميركية، هو ذلك التدخل الأمني غير المسبوق مقارنة بالاحتجاجات العشرة السابقة عليها ومنذ عام 1960م!! حيث إن عدد الطلاب والأساتذة المقبوض عليهم حتى الآن، يقترب من الـ (1000)!
ومن أشهر حالات القبض، هو ما تم مع أستاذة ورئيسة قسم الفلسفة بجامعة (ايموري) في ولاية أتلانتا الأميركية، واسمها نويل مكافي Noelle Mcafee وكذلك أستاذة الاقتصاد في الجامعة نفسها.
والسؤال: لماذا هذا العنف في مواجهة هذه الثورة الطالبية من جانب بعض حكام الولايات ورؤساء الجامعات؟! السر هو: أن هذه ثورة تعلن تضامنها مع القضية الفلسطينية، والمطالبة بوقف الحرب الصهيونية في غزة.. التي وصلت إلى «الإبادة الجماعية» (Genocide)، ومطالبة إدارة بايدن، بمراجعة سياساتها في دعم الكيان الصهيوني، وحكومة النتن/ياهو. لذلك انتفض كل الصهاينة في داخل أميركا، وتحوّل اللوبي الصهيوني الداعم لهؤلاء، ويسعى جاهداً لإغراء الطلاب والأساتذة وقيادات الجامعات، بتقديم تمويلات ضخمة لهم! وهو ما لم يحدث في الاحتجاجات الطالبية السابقة، لأنها لم تكن لصالح القضية الفلسطينية، ومعاداة الكيان الصهيوني، ورفض فكرة دولة «إسرائيل»، بل إن الجديد أن جزءاً كبيراً من الطلاب اليهود، منخرطون في هذه الثورة الجديدة!
إلا أن العنف المستخدم، بشكل ممنهج ضد الطلاب في جامعات أميركا، يضرب حرية الرأي والتعبير في مقتل، وينهي أسطورة أن أميركا بلد الحريات، ومرجعية الديموقراطية، ويبدو أن ديموقراطية أميركا والغرب، لها شرط، عدم المساس بالكيان الصهيوني، لأنه مشروع استعماريّ، وشركة استثمارية، لا يجب الاقتراب منه، أو هدمه! ويغيب عن هؤلاء، أن الشركة أفلست، والكيان الصهيوني دخل مربع الانهيار والزوال. كما أن امتداد ثورة الجامعات، إلى جامعات في أوروبا (فرنسا وبريطانيا)، وإلى أستراليا، ينبئ بما هو جديد في دعم القضية الفلسطينية ومعاداة الكيان الصهيوني، ولهذا حديث آتٍ…
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية،
جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية.