التعمية الغربية أيقظت حقيقة الصهيونية
منجد شريف
تحتلّ مشاهد المظاهرات الطلابية في جامعات كولومبيا وهارفرد وغيرها في سائر أنحاء الولايات المتحدة الأميركي، كما في جامعات فرنسا وبريطانيا وخلافها من البلدان الأوروبية، كلّ شاشات التلفزة والنقل الحي والفقرات الإخبارية، وهي مظاهرات منددة بالسياسة الأميركية والغربية في آن واحد، ودعمها المطلق للعدوان الإسرائيلي الغاشم والمستمر على غزة منذ سبعة أشهر على التوالي، ونفذ خلالها العدو أبشع جرائم الإبادة الجماعية، وأغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، من دون أن يتأثر الضمير الإنساني لدى من يملكون القدرة على فرملة هذا العدوان وثنيه عن اقتراف جرائمه المتكررة من دون حسيب أو رقيب، فكأنّ الصهيونية جلباب للدول الاستعمارية، التي أنهت استعمارها في العلن، بينما في السر ما زالت موجودة في ما يسمّى “دولة إسرائيل” ومشروعها الاستيطاني على كامل تراب فلسطين وخارجها إذا ما استطاعت إليه سبيلاً.
جاءت تلك المظاهرات لتقول للإدارة الأميركية إن سياسة التعمية لم تعد تجدي نفعاً، وإنّ الإعلام المتصهين قد فقد تأثيره في الرأي العام العالمي، بعدما تحوّل العالم إلى قرية صغيرة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وما تتناقله من فظائع ذلك العدوان في حقّ أناس عزل لا يملكون غير الدعاء لردّ هذا العدوان الغاشم، الذي ما زال يدكّ في الأحياء السكنية والمستشفيات والتجمعات السلمية، كوحش ضار لم يستوعب حقيقة فشله الميداني بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في عملية طوفان الأقصى، وفقدانه المبادرة، بعد اقتحامه في عقر مقراته العسكرية، وإظهار ضعف جيشه وعجز ضباطه وجنوده عن المواجهة المباشرة، فكان الردّ بسلاح الجو وتدمير غزة فوق رؤوس أبنائها، وعبثاً يحاولون ولن يستطيعوا أن يعيدوا الصورة إلى ما قبل طوفان الأقصى.
تلك المظاهرات أحيَت الأمل في أن الضمير الإنساني ما زال حياً، وأن الظلم مرتعه وخيم، وعلى الباغي تدور الدوائر، وأن الأطماع الغربية في خيرات المنطقة وثرواتها مقرونة بالأطماع الصهيونية في الجغرافيا ببدعة الحق الديني والتاريخي، مهما تعاظمت وحجبت الرؤية عن تلك الإبادة الجماعية، فهو لن يحجبها عن الرأي العام العالمي عند الأحرار في هذا العالم، فالمظاهرات التي يشهدها العالم في مختلف الجامعات أتت لتقول للصهيونية كفى إجراماً ولداعميه كفى دعماً لعدو مطلق ضدّ كلّ الأعراف والتقاليد الإنسانية، وأصبحت راية فلسطين والمقاومة ترفرف في كل الساحات والميادين كنوع من الإقرار في حق تلك الدولة وأبنائها من العيش بسلام، وحق مقاومة ذلك العدو الغاشم الذي لا يفقه سوى لغة القوة أسلوباً لمواجهته. فما يفعله العدو الإسرائيلي من مجازر وأعمال إبادة وما تلاقيه به كل الأنظمة الغربية، وخاصة ما جاء على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن في أول زيارة له بعد الطوفان في قوله: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها”.
هذا ما يجعلنا أمام حقيقة كبيرة تأخذنا إلى عمق التاريخ، وتحديداً إلى مؤتمر كامبل بنرمان، وهو مؤتمر انعقد في لندن عام 1905 واستمرت جلساته حتى 1907، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطاني بهدف إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية إلى أطول أمد ممكن. وقدم فكرة المشروع لحزب الأحرار البريطاني الحاكم في ذلك الوقت، وضمّ الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا. وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية سموها «وثيقة كامبل» نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان. وهو أخطر مؤتمر حصل لتدمير الأمة العربية خاصة (الإسلامية عامة) وكان هدفه إسقاط النهضة وعدم استقرار المنطقة. قدّم المؤتمر توصيات إلى حكومة الأحرار برئاسة السير هنري كامبل بانرمان، (بعد سقوط حكومة المحافظين عام 1905 برئاسة آرثر بلفور)، لإقناع رئيس الوزراء الجديد بالعمل لتشكيل جبهة استعمارية لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني، ولتحقيق بعض الأهداف التوسعية في آسيا وأفريقيا. وتأسست هذه اللجنة العليا، واجتمعت في لندن عام 1907، وكانت تضم ممثلين عن الدول الاستعمارية الأوروبية وهي: انكلترا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وهولندا، إلى جانب كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول. واستعرض المؤتمر الأخطار التي يمكن ان تنطلق من تلك المستعمرات، فاستبعد قيام مثل تلك الأخطار في كل من الهند والشرق الأقصى وأفريقيا والمحيط الأطلسي والمحيط الهادي، نظراً لانشغالها بالمشاكل الدينية والعنصرية والطائفية، وبالتالي بُعدها عن العالم المتمدّن. وأن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد ان أظهرت شعوبها يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية. كما ان خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان. ولم ينس المؤتمر أيضاً، عوامل التقدم العلمي والفني والثقافي. ورأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية متأخراً، وعلى ايجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. ولذا أكدوا فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة (الدولة العازلة) Buffer State، عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية. وهكذا قامت “إسرائيل”. توصلوا إلى نتيجة مفادها: «إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات». والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة: «ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان”.
وأبرز ما جاء في توصيات المؤتمِرين في هذا المؤتمر:
إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:
* الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا) وواجبها هو دعم هذه الدول مادياً وتقنياً لتصل إلى مستوى تلك دول الغرب.
*الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديداً عليها (كدول أميركا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا تشكل تهديداً عليها وعلى تفوقها.
* الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديداً لتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أيّ اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.
* محاربة أي توجه وحدوي فيها:
ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعاد يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب، ألا وهي “دولة إسرائيل” واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة، كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر “الدولة الإسرائيلية”، وإنما اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، مما أبقى العرب في حالة من الضعف.
وهذا ما يفسّر لنا اليوم سبب ذلك الدعم المطلق لـ “إسرائيل”، من كل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لأنها تمثل الجبهة الغربية المتقدمة في خاصرة العرب بمنع تقدّمهم، واستغلالهم لثرواتهم وخيراتهم، ولكي تبقى المنطقة في حال من اللاإستقرار، ليهجرها أبناؤها إلى مختلف البلدان طمعاً بحياة أفضل، بينما المنطقة واقعة على بحور من الثروات والخيرات، وهذا ما دفع إلى إيجاد “إسرائيل” كي تكون اليد العليا للقوى الاستعمارية، لتضرب بها كلّ من تسوّل له نفسه أن يمنع تلك الخيرات عنهم، وهذا ما يفسّر الحرب ضدّ كلّ مشروع لوحدة عربية، لأنّ الخطر يكمن في الوحدة العربية وما يمكن أن تشكله على صعيد الصراع مع العدو، فكانت المقاومة البديل الحتمي لإعادة البوصلة إلى الاتجاه الصحيح، ولتقول لا لمقررات كامبل بنرمان، ولا لترجمتها من خلال الدعم المطلق لـ “إسرائيل”، ولا لقتل أبناء الأمة، ولا لسرقة ثرواتهم، وستبقى الكلمة العليا لأصحاب الحق، وسيبقى الضمير الإنساني موجوداً مهما تفننوا في التضليل والتعمية، وسيبقى الأحرار في هذا العالم أمة واحدة تتلاقى على مبادئ الإنسانية والرحمة، وهذا ما ترجمته المظاهرات في كلّ أصقاع العالم، وما ستترجمه في الأيام المقبلة، دقت ساعة الحقيقة، وآن لهذا الكيان البغيض أن يزول، بعدما توضح لكلّ العالم أنه وكيل استعماري يقاتل من أجل الثروات وأنه لا حقّ لهم في فلسطين وفي أيّ من باقي الدول المحيطة بها، بل الحق هو لأبناء المنطقة، وانتهت تلك المهزلة المسماة المعاداة للسامية، لتأخذ مكانها إسرائيل عدوة الإنسانية.