الطوفان… حكاية تاريخ ومأزق لنظام عالمي
} علي فضّة
»شكَّل الحديث عن نهاية التاريخ أو توقفه أو مكره وتحوّله اهتماماً كبيراً بين الفلاسفة وعلماء التاريخ وعلم الاجتماع حتى علماء السياسة أيضاً؛ لما لهذه الفكرة من تأثير ورؤية للحياة ومستقبلها في ضوء التحوّلات والمتغيّرات الفكرية والسياسية في الحضارات والثقافات الإنسانية، وهذه الفكرة أو النظرة الفلسفية التاريخية تأتي مع كلّ أزمة أو تغيّر في العالم«.
فريدريك هيغل كان له رأي (ظلّ محط نقاش ليومنا هذا) باعتباره رائد المثالية، والذي »عندما جاء نابليون غازياً للعديد من دول أوروبا الغربية، لفرض نموذج ما قامت به الثورة الفرنسية، ومنها غزوه لبلاد بروسيا وطن هذا الفيلسوف الذي بارك ذلك الغزو بقوّة، مع أنها مسقط رأسّه مهما كان النظام السياسي فيها، وعندما دخل نابليون إلى برلين، قال هيغل كلمته الشهيرة: «رأيت روح العالم متجسّدة في رجل يركب على حصان ويسيطر على العالم ويحرّكه» كأنّ التاريخ توقف عند «هيغل» لحظتها. لكنه عندما وجد الدمار والخراب الذي نتج عن غزوه لبروسيا، هاجم «هيغل» نابليون بشراسة وتعصب عرقيّ جرماني! في ما قام به من تصرفات، والتي لا تمثل فكر الأنوار.
بالحديث عن جدلية التاريخ وما اصطلح له من توصيفات سيما في هذا المثل المضروب أعلاه، نرى جملة من التناقضات، كما أننا لو تعمّقنا بها أكثر، لوجدناها خزاناً من العبر الفكريّة التوصيفية، أوجبت على العقل ان يتفتق من تعليبه ليحللها، واضعاً إياها في سياق «العلاقة المشروعة مع التاريخ» بعيداً عن «حفلات المجون التاريخي» لا سيما إذا ظهر حدثاً يزلزل العقل البشري، ليعيد قراءاته النقدية، لظواهر كانت مسلمات في عمليّة تشكلّه على النحو الذي نحن عليه اليوم.
طوفان الأقصى
ما زال هذا اليوم مظلوماً، السابع من أكتوبر، يوم ليس عبارة عن عملية عسكرية، أقلّ ما يُقال فيها إنها عظيمة، لكن التاريخ لم يتوقف هنا، بل إعادة تشكيله على نحو يرتق مع مآلاته وتداعياته، لأن تاريخ هذه القضيّة قد توقف مرات عدّة، تارة على أيدي أنظمّة عربية استسلمت وأخرى على يد «أوسلو» التي فرّطت، لكنه عاد ليستأنف نشاطه الصيروري في إعادة تشكيله من جديد على نحوٍ مغاير لتثبيطه بين استسلام وتفريط، قد فات «هيغل» وهو القائل عن «مكر التاريخ او توقفه» أن الطبيعة ترفض الفراغ وإن لم يكن هناك من يستأنف نشاط التاريخ الديمومي، لاستأنف نفسه بنفسه بوجود الانسان، لأنّ علاقة الإنسان مع التاريخ علاقة طردية وليست علاقة ظرفية.
بالعودة إلى الطوفان، ولا يمكننا العودة الجدية دون معرفة السببية »حيث لا يولد فعل عظيم إلّا من ألمٍ أعظم« وهنا لا أعالج او أشرّح سبعة أشهر ونيّف من أعظم ملاحم القرن، لا على المستوى العسكري ولا الدخول في زواريب الأحقيّة من عدمها والمشروعية من لاءاتها، ولا عن التكلفة من جدواها، بل سأركز على النطفة التي سبقت الملايين من أقرانها لتستقر في رحم »الحريّة«، الحريّة هنا أيضاً ليست بالمفهوم الليبرالي، بل بمفهوم المعاناة التي تولد منظوراً مختلفاً من أشكال الحرية التي كنا نشتريها سابقاً كعلبة سجائر من على رف المتجر، نطفة الطوفان استقرت في أرض خصبة، حريّة في زمن استهلكت العولمة كل طاقاتها، حتى باتت لا تستطيع إلّا القتل، بالمقابل الأرض الخصبة تنتج حريّة معدية، لحظتها حساسات إنسانية كانت مثبطة على نمط «نم، كل، اشرب، انكح، اعمل» وجدت نفسها أمام صخرة من الآلام في بقعة أخرى من الأرض، تفلت قسم كبير من رسنه (عذراً على التعبير) وبات ينشد على صخرة جثمت على نظام عالميّ يتداعى، إن قام كلٌ في دوره بنحت تلك الصخرّة، منهم من سيّس ومنهم من ألّف ومنهم من وجّه وآخر أساساً يقاتل لبات ذاك التداعي سقوطا حتميا، ضمن أمم متعطشة لأنسنتها بعد تدجين، وتسييس بعد تلقين وفلسفة بعد تنميط.
لا يستطيع أحد الإنكار أنّ السبعة أشهر التي خلت مرت مرور الكرام في حياتنا، او أنها لم تترك بصمة وبارقة وألم، أو كأنها لم تكن موجودة، التاريخ وجدليته طوفان، لم يوقفه مكرٌ ولن يسيطر على صيرورته إذعان، عذراً «هيغل» التاريخ لن يتوقف، بل سيكتب فصولاً جديدة وعلوماً مفيدة وتعاليم حميدة وسيولد جذوَة متقدة في عقولنا وسننتج.
اغرقوا في التفاصيل قدر ما شئتم وتوهوا الناس قدر قدركم فعلاقتنا كما هي شرعية مع الأرض ومفهومها المعمم عالمياً، ستكون شرعيّة مع التاريخ وخالية من مكركم.