الموت يغيّب الشاعر السودانيّ محمد الفيتوري
توفّي الشاعر السوداني المقيم في المغرب محمد الفيتوري، مساء الجمعة الماضي، في أحد مستشفيات الرباط، عن 79 سنة بعد معاناة مع المرض.
ويلقّب الفيتوري بشاعر أفريقيا والعروبة، وهو من روّاد الشعر الحديث، إذ ارتبط شعره بنضال عدد من الدول الأفريقية ضد المستعمر، وبفلسطين.
ولد الفيتوري في السودان ونشأ في مدينة الاسكندرية المصرية، وانتقل إلى القاهرة حيث تخرّج في كلّية العلوم في الأزهر. عمل محرّراً في صحف مصرية وسودانية، وشغل عدّة مناصب إعلامية ودبلوماسية.
ويعدّ الفيتوري من روّاد شعر التفعيلة في العصر الحديث. كما تميل كتاباته إلى التصوّف، ونال عدداً من الأوسمة والجوائز في عدّة دول عربية كالسودان والعراق ومصر وليبيا والمغرب.
أسقطت عنه الحكومة السودانية الجنسية وسحبت منه جواز سفره عام 1974 بسبب معارضته نظام جعفر النميري، لكن الحكومة السودانية أعادت له جنسيته ومنحته جواز سفر دبلوماسياً عام 2014. لم يستلمه بشكل رسميّ.
أنشد لأفريقيا ونضالها ضدّ الاستعمار، وألّف دواوين كثيرة منها: «أغاني أفريقيا» عام 1955 و«عاشق من أفريقيا» في 1964 و«اذكريني يا أفريقيا» في 1956.
دُرّست أعماله ضمن مناهج آداب اللغة العربية في مصر في ستينات القرن الماضي وسبعينياته، كما غنّى بعض قصائده مغنّون كبار في السودان. وحصل على الوسام الذهبي للعلوم والفنون والآداب في السودان.
محمد الفيتوري الذي حمل قضية أفريقيا ودافع عنها بكلّ جوارحه، يحمل أيضاً القضايا العربية ويسلّط الأضواء عليها ويدافع عن الحق العربي في التحرّر والاستقلال. وتكلم في كل مناسبة عن فلسطين قلب العالم العربي، التي تقف منذ أكثر من نصف قرن وحيدة في ساحة المعركة، وما زال أبناؤها يدفعون ثمن الخيانات المتكرّرة وثمن الصمت العالمي على الإرهاب الصهيوني.
عام 1969، في قصيدة «إلى الأخطل الصغير»، ينطلق الشاعر الفيتوري من التاريخ العربي القديم ويستعيده كي يستعيد معه حاضره المحاصر وهويّته المهدّدة، ويقول:
أنت في لبنان
والجرح كما كان يا لبنان
والنار ضرامُ
وفلسطين التي كانت لنا
سورةً تُتلى، وقدّاساً يُقامُ
وشيوخاً تذكر الله
فملء المحاريب صلاة وصيامُ
ونبيين صفت أرواحهم
فلياليهم سجودٌ وقيامُ
كان بيت الله قدسيّاً بهم
قبل أن يأتي على القدس الظلامُ
وأتوا يا كبرياء انتفضي
وانتقم يا جرح… واغضب يا حسامُ
قل لهم إن صلاح الدين قد عاد والمهدي والأنصار قاموا
وصحا الموتى الفدائيّون
فالأفق الشرقيُّ نارٌ وقتامُ
قل لهم عودوا إلى هجرتكم
ففلسطين هي الأرض الحرام
قل لهم إن المدى متّسعٌ
بيننا… والحرب دينٌ والتزامُ
فأقيموا كيفما شئتم
إما نحن أو أنتم عليها يا لئامُ.
أما في قصيدة «مقام في مقام العراق»، فالشاعر ينتقل فيها من الحديث عن العراق الشامخ أبداً إلى الحديث عن فلسطين التي تكاد لا تغيب عن قصيدة من قصائده:
وتقيمُ المقاديرُ فيك احتجاجاً
على وطنٍ أبديِّ الوثاق
ضاع بين صراع المماليك والأغَوات
وفرسانِ عصرِ الوفاق
وطنٌ
بيرقٌ من نقوشٍ
وأرواحُ آلهةٍ
وهَيولى ازرقاق
حجبوا الله، والشمسَ
والحبَّ عنه
فأصبح سجناً كبيراً
وضاقْ!
جزّأوه
وقد كان شعباً
فأضحى شعوباً معبّأةً في زقاق
واستُبيح الترابُ
الذي كان من قبلُ، فوق التراب
عزيزَ النطاق
والبلاد التي مسحت راحتاها المقدّستان
جبينَ البُراق
حملت عارها من زهور الهزائم
والعتمات
وخبز الفراق
غيرُ طفلٍ هناك
رأى وطناً صار في حُلمِهِ حجراً
فاستفاق
يعجن النارَ والصلواتِ بأسنانه
ويدوس حريرَ النفاق
هتك السّرَّ
فالأمسُ كان مُراهَقَةً
والنضالُ القديمُ ارتزاق
والجيوشُ التي سَمِنتْ في حظائرِ حكّامِها
كذبةٌ… واختلاق
إنما يستردُّ البلاد
الرجالُ الأُسود
لا الرجالُ النِّياق
وفلسطينُ أرضٌ وشعب
وليست كما زعموا حارة أو زقاق
ويُسائلُكَ الميّتُ الحيّ
والدمُ يختالُ منتصراً أو يُراق
عاصفٌ غيمُ تلك الليالي
على أنّ موجاً منَ البرق في الغيم باق
وقديماً تأنّقَ روحُ الجمال
فألْقِ على كلِّ جفنٍ رُواق
وقديماً تجلّى بهاءُ الأُلوهة
في نشوةِ الكائناتِ الدِّقاق
ولقد يَظمأُ العشب
والماءُ يركضُ حَيران… في فجواتِ المآق.