مقالات وآراء

العرب وصراع الأولويات…

‭}‬ محمود الهاشمي
ربما تكون من أصعب القرارات التي تتخذها الدول هو ترتيب الأولويات لأنّ ذلك يدعوها للمزيد من التمعّن والتفكير والنزوح الى الاستشارة لأنّ ايّ تقديم او تأخير، قد يكون سبباً في فشل تجربة سياسية او حكومية او اقتصادية وحتى اجتماعية .
وإذا كان فنّ إدارة الأولويات يُدرّس في إدارة الأعمال والمشاريع الاقتصادية فإنّ الحكومات بأشدّ الحاجة اليه، لأنها دائمة الوقوف عند تقديم هذا على ذاك، من القرارات والمهام .
يتداول العرب مصطلح الأولويات هذه الأيام، عبر التساؤلات أن نبني ونعمّر ام نهتمّ بالقضية الفلسطينية باعتبار انها القضية الساخنة ولا يمكن تجاهلها.
فالسعودية تتحدث عن أولوياتها بإنشاء مشروع نيوم، ومصر الجمهورية الجديدة، والأردن مشاريع الطاقة، والإمارات الطاقة النظيفة، والعراق تطوير الخدمات ومشروع طريق التنمية وإعادة تأهيل المصانع، والإعلامي الكويتي أحمد الجارالله كتب قبل أسبوع من معركة «طوفان الأقصى» أنّ القضية الفلسطينية لم تعد ملفاً عربياً، منتخياً ولي عهد السعودي بالذهاب إلى التطبيع بقوله «محمد بن سلمان اعقلها وتوكل».
لو أردنا ان نتوقف عند ذات التساؤل عندما انطلقت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وبعد أيام أعلن مفجرها الإمام الخميني الراحل عن عدة قرارات تخص القضية الفلسطينية…
1 ـ اعتبار السفارة الأميركية في طهران سفارة الشر ووكر التجسّس فهجم عليها الطلبة وحاصروها إلى أن أقفلت أبوابها ورحل طاقمها.
2 ـ استعادة السفارة «الإسرائيلية» وتحويلها الى
سفارة لفلسطين.
3 ـ إعلان انّ «إسرائيل» غدة سرطانية ولا بدّ ان تُمحى.
4 ـ إعلان أميركا الشيطان الأكبر…
يومها كانت الاعتراضات والتساؤلات كثيرة بأنه ليس من الصلاح انّ الثورة في أيامها الأولى وما زال الجيش يعجّ بالضباط من أنصار الشاه وكذلك بقية القوات الأمنية.
وما زال الشارع غير مضمون الولاء وأعداء الثورة في مناصب كثيرة ناهيك عن خطر الحرب بين العراق وإيران وقد دخلت القوات العراقية الى عمق 120 كم داخل الأراضي الإيرانية واستيلائهم على مدن عديدة.
لا شك لو أردنا ان نضع جدولة للأولويات فإنّ الجميع يقول انّ معاداة أميركا يمكن ان تتأخر وكذلك «إسرائيل» حيث ليس من الصلاح مهاجمة أميركا أيام تفرّدها بالعالم حيث كان الاتحاد السوفياتي يعيش أيامه الأخيرة !
ولكي نحاكم الأمور بدقة علينا ان نعيد سؤالنا بشكل آخر؛ هل كان العداء لأميركا «إسرائيل» قد أخر البناء والإعمار بإيران؟
سيجيب الجميع كلا وانّ إيران في ظلّ الثورة الإسلامية حوّلت التحديات التي واجهتها وخاصة العداء للاستكبار العالمي الى إنشاء دولة حضارية متقدّمة تضاهي الدول الكبرى !
انّ البناء والإعمار يحتاج الى حارس وانّ الدول التي اعتقدت انها تريد ان تبني وتعمّر بعيداً عن مواجهة الإرادات الدولية فشلت جميعها في تجربتها، فالاتحاد السوفياتي خنق أصدقاءه من دول أوروبا الشرقية بتجربته العقائدية وجعلهم مجرد تابعين له، وأميركا حوّلت الدول الخاضعة لها مجرد بقرة حلوب تنهب بثرواتها، وترضخ لإرادة قواعدها، بما في ذلك الدول ذات التجربة الصناعية مثل اليابان وكوريا الجنوبية حيث فرضت عليها قواعدها العسكرية الضخمة بأسلحتها النووية دون ان تقوى ان تمانع فمثلاً انّ كوريا الجنوبية تقبّلت قبل عامين مشروع بناء أكبر قاعدة عسكرية أميركية جديدة على أرضها، فيما جارتها الشمالية تملك أسلحة ترسانة نووية كبرى وكلاهما في خصومة بدلاً من توحيد الكوريتين والعيش بسلام، وهذا يتمدّد على أوروبا فأغلب دول أوروبا فيها قاعدة او اثنين وقسم منها ثلاثة قواعد محشوة بالأسلحة النووية، فيما تدفع بها للحرب مع روسيا المدجّجة بالاسلحة النووية والتلويح بها قائم .
قد يسأل سائل: ما علاقة إيران بالقضية الفلسطينية، فيما العرب أصحابها يطبّعون مع مغتصبها؟
ونقول: ماعلاقة دولة جنوب أفريقيا بالدفاع عن القضية الفلسطينية وتحمّل المسؤولية الدولية والعداء مع أميركا و«إسرائيل» والغرب؟
العالم تحكمه القيَم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية والدينية وانّ التنصل منها يجعل الأمم مجرد تماثيل تتحرك كما تريد أميركا الآن…
حتماً هناك من يلوم الطلبة في الجامعات الأميركية والغربية في خروجهم بتظاهرات والتصادم مع الشرطة والتأثير على دروسهم وغيرها، لكننا في العراق لماذا نفخر بهم ونلوم جامعات العرب الخاملة؟
انّ البناء والإعمار بلا قيَم لا معنى له مثلما نراه في دولة الإمارات الآن، حيث انها مبانٍ ميتة، يقول الشاعر:
وتأتيك من خلف البحار حضارةٌ
لتبني على الصحراء جنة عادِ
فما طعم جناتٍ تمرّ بأهلها
كأنك تمشي في جموع جمادِ؟
فالحضارة تؤسّس على الأخلاق المنبثقة وسقوطها يؤسّس على سوء الخلق، فكلما التزمت أمة ما بمزيد من القيم الأخلاقية وكلما سعت إلى صقل هذه القيم وتأصيلها في أعماق البنية الاجتماعية؛ كلما تمكنت من حماية وحدتها وتأخير عمرها الحضاري، وإبعاد شبح التدهور والسقوط بالتالي. وكلما بدأت جماعة بالتخلي عن هذه الالتزامات وطرحها جانباً وعدم السعي لبلورتها وتعميقها في الممارسة الجماعية كلما عرّضت وحدتها للتفتيت وآذنت معطياتها ونشاطاتها الحضارية الشاملة بمصير سيّئ قريب.
وهذا ما أشار له الإسلام ايضاً بانّ واحدة من اهمّ أسباب انهيار الحضارات هو تفشي الفساد وضياع القيَم والتنكر للنعمة، قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، او كما جاء في الحديث الشريف: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ.
وابن خلدون صاحب المقولة الخالدة في مقدمته «الظلم مؤذن بخراب العمران».
إذن… الأولويات ليس كما يرى البعض، تكون بإدارة الظهر للقيم والإغماض عن الظلم بدعوى البناء والإعمار، وهنا نسأل: أين مصير الـ 19 ألف معمل ومصنع شيّدها النظام البائد من أموال الشعب فسخر الله اميركا لتدمّرها لما كان من ظلم على الناس !
ما نريد ان نقوله إنّ القضية الفلسطينية هي قضية الأمة، وانّ إدارة الظهر لها بدعوى الأولويات هروب من المسؤولية، وانّ دعم القضية الفلسطينية وأحرار العالم في كل مكان فيه تعضيد للحق وإكثار أهله ونشره بين الأمم.
عند ذلك ينحسر الباطل ويقمع فتزدهر الفضيلة، وماذا لو لم ينصر النجاشي المسلمين المهاجرين وأخذ برأي عمرو بن العاص؟ حتماً ستنحسر مساحة الحق ويضعف أهله فتهاجمهم قوى الشر مثل أبو سفيان وأبو لهب.
انّ انخراط إيران بنصرة فلسطين ودعم المقاومة بالمال والسلاح والرجال والخبرات والمعرفة إنما هو انتصار للحق دون ان يعطل ذلك من مشروعهم الحضاري.
ونسأل: ماذا لو زالت «إسرائيل» وفرّت أميركا من الشرق الأوسط؟ أليس ذلك في صالح شعوب المنطقة لينفقوا ثروات بلدانهم للبناء والإعمار وليس لخدمة قوى الاستكبار والشر؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى