مشهد «طوفان الأقصى»… في الذكرى الـ 76 للنكبة
} د. جمال زهران*
بين الذكرى الـ (75) للنكبة في 15 مايو 2023م، والذكرى الـ (76) لهذه النكبة في 15 مايو 2024م، وقع «الطوفان»، إنه «طوفان الأقصى»، كما أسمته المقاومة الفلسطينية بقيادة «حماس والجهاد والجبهة الشعبية»، والذي لا تزال آثاره مستمرة، على الرغم من مرور ما يقرب من ثمانية أشهر تقريباً، على الحرب العدوانية التي يشنها العدو الصهيوني على غزة: الشعب والأرض والمباني والمستشفيات، في حرب إبادة جماعيّة غير مسبوقة في التاريخ.
إذن، بين التاريخين وخلال عام، وقع حدث ضخم هو «طوفان الأقصى»، وهو الحدث غير المسبوق في السنوات الـ (75) على النكبة عام 1948م، فغيّر المسارات وولد الآمال، وخلق الطموحات لدى الشعب الفلسطيني، بل والعربي من المحيط إلى الخليج، أن فلسطين في طريقها إلى الحرية والاستقلال، وأن الكيان الصهيوني في طريقه إلى الاندثار والزوال. وفي هذا السياق يمكن رصد ما يلي:
1 ـ أن ما يحدث في غزة الآن، هو حرب تحرير واستقلال لفلسطين المحتلة، بشكل لم يسبق له مثيل، منذ نكبة 1948م، أي على مدار (76) سنة، رغم أن الثمن في البشر والحجر، كبير، ولكنه ثمن للحرية والاستقلال، في مواجهة الاستعمار الحقير، كما حدث في تحرير فيتنام من الاستعمار الأميركي، وكما حدث في جنوب أفريقيا في مواجهة الاستعمار الإنجليزي والأوروبي والأميركي، وفي تحرير الجزائر، من الاستعمار الفرنسي، كان الثمن فادحاً، ولكن تحررت هذه الدول بأثمان متقاربة، وأعادت بناء ذاتها مرة أخرى، وأصبحت نموذجاً في التحرير والاستقلال.
2 ـ أن ما حدث في السابع من أكتوبر 2023م (طوفان الأقصى)، هو نقلة نوعية في المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وبين الكيان الصهيوني الذي يمارس الإرهاب بشكل فاجر وبلا سقف، ويعبّر عن تكوين عصابي، غير مسبوق في التاريخ الإنساني. وبشكل حاسم فإنّ «طوفان الأقصى»، لن يكون ما بعده.. هو ما كان سابقاً عليه، بأيّ شكل من الأشكال.
3 ـ أن صمود المقاومة.. وصمود شعب فلسطين في غزة، حتى الشهر الثامن، هو صمود أسطوري، يؤكد إصرار الشعب الفلسطيني، على انتزاع استقلاله وحريته، وتحرير بلاده المحتلة والمغتصبة من عصابات الكيان الصهيوني، أتت من كل فجّ عميق، ومصيرها العودة إلى البلاد التي أتت منها، على وهم دولة الوطن القومي لليهود، في العالم، بعد أن انكشفت المزاعم والأوهام، في واحة القوة، والأمان، والديموقراطية!
4 ـ فشل المجتمع العالمي، ممثلاً في تنظيماته الدولية والإقليمية، في حماية الشعب الفلسطيني، من حرب الإبادة الجماعية (Genocide) التي تعرّض لها على يد عصابات جيش المحتل الغاصب الصهيوني.. والمدعوم أميركياً وأوروبياً، بشكل مباشر، وبلا خجل، وسط إصرار على ضرورة حماية الكيان الصهيوني، من الانهيار، مهما حدث، والتأكيد على حتمية استمراره، الأمر الذي يؤكد أنه مشروع استعماري متكامل الأركان، له وظيفة تتركز في الحيلولة دون تحقيق وحدة عربية وإحياء القومية العربية، والحيلولة ضد استعادة زمام المبادرة للإقليم في تحقيق التقدم والإسهام الحضاري، استمراراً للنهب الاستعماري لموارد هذا الإقليم، الذي يعدّ الأغنى في العالم، والأكثر أهمية بحكم الموقع الجغرافي، وفقاً لنظريات الجيو/ استراتيجيا. إلا أنه يستثنى من ذلك مساندات الدول الحرة ممثلة في (جنوب أفريقيا)، ودول أميركا اللاتينية الحرة وفي مقدمتها (كوبا – بوليفيا – كولومبيا – فنزويلا – البرازيل إلخ…)
فضلاً عن فشل التنظيمات الإقليمية في مقدمتها (جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، الاتحاد الأفريقي) وغيرها، التي لم تمارس الدور المنوط بها، لضعف الإرادة السياسية لها ولأعضائها، الذين وضعوا أنفسهم في موقع التابعين للسياسة الأميركية، وأصبحوا داعمين بشكل مباشر أو غير مباشر، للمشروع الصهيوني الأميركي الاستعماري.
5 ـ احتلت القضية الفلسطينية، الصدارة في كل أنحاء العالم، بعد «طوفان الأقصى»، بعد أن كادت تدخل نهائياً دائرة النسيان الأبدي، وكأنّ القبول بالأمر الواقع، صار هو الحلّ، ولذلك لم يكن مستغرباً، أن يجري الترتيب لمستقبل هذا الشعب الفلسطيني، بيد الآخرين تحالفاً مع العملاء سواء في الداخل أو في الإقليم أو في العالم.
وهنا فإنه وجبت الإشارة إلى أن تحرّك طلاب الجامعات في أميركا، والتي امتدت إلى أوروبا وكندا والمكسيك وأستراليا، وبعض جامعات الإقليم – وإن كان على استحياء -، كان هو الحصاد لصدارة القضية الفلسطينية بعد «الطوفان». حيث أن هذا الحراك هو ميلاد جيل جديد، يرفض السردية الصهيونية، والوطن القومي لليهود، والمحرقة على يد هتلر، ومعاداة السامية لكل من يقول لا… للكيان الصهيوني. وعلى الجانب الآخر فإن هذا الجيل الجديد، يعلن السردية الفلسطينية، التي تعني تحرّر فلسطين وشعبها وإنشاء دولته على كامل التراب، وزوال الكيان الصهيوني، وإعادة المحتلين إلى بلادهم. كما أنّ هذا الجيل طالب بفك العلاقة (تمويل – نشاطات أبحاث) لجامعاتهم مع الكيان الصهيوني نهائياً، واستجابت جامعات كثيرة، وسط صراع مع الصهاينة في أميركا وفي داخل الكيان. فضلاً عن رفع مطالب بالتوقف من الحكومة الأميركية ودول العالم الغربي في أوروبا، عن دعم الكيان الصهيوني، وأنه قد آن الأوان لوقف ضخ أموال الضرائب، بحجة دعم هذا الكيان. وفوق هذا وذاك، الإعلان بصوت عالٍ، عن العداء للفكرة الصهيونية، وضرورة وقف استمرار تحمل حماية كيان صهيوني غاصب.
6 ـ ارتفاع نبرة إزالة الكيان الصهيوني، من أرض فلسطين المحتلة، بشكل غير مسبوق، حيث كان يتهم صاحب التفكير والتعبير عن ذلك، بمعاداة السامية، بل يتهم بالجنون، وعدم الواقعية. وقد أصبح الحديث في هذا الموضوع، كبيراً ولافتاً للنظر. وهنا نتذكر الاتهامات التي وجهت للزعيم جمال عبد الناصر، بأنه يريد أن يلقي باليهود والإسرائيليين في البحر!! والآن الطلب أصبح ملحّاً في كل وسائل الإعلام.
وفي ضوء ذلك كله، فإن المقاومة بكل فصائلها، أثبتت قدرتها على المواجهة، وإحراز نتائج باهرة، وأوقعت بالعدو الصهيوني خسائر كبرى، يعجز الآن عن الإفصاح عنها. كما أن هذه المقاومة الشجاعة تحملت المسؤولية التاريخية عن عملية التحرير، وأن مشروعات الاستسلام وسلطة أوسلو الوهمية، قد سقطت، ولم يبق سوى إعلان الانتصار الكامل للمقاومة، مقابل الانهيار الكامل للكيان الصهيوني، رغم كلّ المساندات الغربية والأميركية له.
وفي الذكرى الـ 76 للنكبة الأولى، تحركت رياح الأمل في التحرير والاستقلال بعد عملية «طوفان الأقصى».. وتبعاتها على مدار الأشهر الثمانية الفائتة، ولا تزال معركة التحرير مستمرة…
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية