أولى

هل نشهد الآن بداية انقلاب في طبيعة العلاقة الأميركية الإسرائيلية؟*

‭}‬ علي حمدالله
أولاً: مقدمة
تزامن تطوّر الصهيونية مع تطوّر الرأسماليّة لشكلها الإمبريالي في القرن التاسع عشر، ثمّ جاءت اتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية لتقسيم الوطن العربي كمقدمة ضرورية لوعد بلفور الذي تبعها بعام والصادر عن وزير خارجية المملكة المتحدة بعد أخذ الضوء الأخضر من الإدارة الأميركية. وعليه نشأت الصهيونية في الحاضنة الإمبريالية وتعتبر ربيبتها، وتجسّد المشروع الصهيوني على أرض فلسطين بإقامة كيان وظيفي تحت اسم «دولة إسرائيل» المزعومة في خدمة الأهداف الإمبريالية في المنطقة؛ بما فيها إخضاع الوطن العربي وتفكيكه وتفتيته وإذكاء الصراعات الداخلية بين العرب، وإجهاض أيّة محاولات للوحدة والنهضة، بهدف تسهيل الهيمنة الإمبريالية على الوطن العربي والإقليم وتسهيل نهبه واستغلاله. ويشكّل احتياج الإمبريالية العالمية للمشروع الصهيوني مصدر قوّة لـ «إسرائيل» ولجماعات الضغط الصهيوني في المراكز الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وكلما زادت كفاءته في تحقيق الأهداف المرجوة منه تعززت السطوة الصهيونية في مراكز صنع القرار الإمبريالية، «فالموظّف الشاطر قادر على فرض شروطه على المشغّل». ومع تقدّم الزمن وخصوصاً بعد تسعينات القرن الماضي، زادت قوة جماعات الضغط الصهيونية في مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة، ونجحت «إسرائيل» في تعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية وقدرتها على الردع الاستراتيجي وإدماج العديد من اقتصاديات المحيط والإقليم باقتصادها ونما لديها توجه بالاستقلال عن الحاجة الملحة للدعم الإمبريالي الخارجي والتحوّل إلى شكل من أشكال الإمبريالية الإقليمية، وبشكل عام ساهم هذان العاملان -قوة جماعات الضغط والقوّة الذاتية الإسرائيلية – في تعميق تأثير الصهيونية على مراكز صنع القرار الأميركية، إلّا أنّ ذلك لم يخرج عن الإطار الرئيسي الناظم للعلاقة بينهما باعتبار «إسرائيل» كياناً وظيفياً لخدمة الإمبريالية، وبشكل استراتيجي تلتزم الولايات المتحدة بدعم غير محدود للكيان (الاستثمار به) بشرط أن يحقق الكيان وظيفته الاستراتيجية، أي أن تبقى المنافع الاستراتيجية لدعمه أعلى من المخاسر، ما يدلّ على أنّ علاقة الكيان بالإمبريالية مشروطة وليست مطلقة. ولكن هل نشهد الآن بذور تحوّل أو انقلاب في طبيعة هذه العلاقة؟ ما هي محددات هذا التغيّر؟ وبلغة أخرى هل ما تزال الصهيونية قادرة على تحقيق أهداف الإمبريالية؟ وإلى أي مدى ستذهب الولايات المتحدة في دعم الصهيونية في مواجهة التحديات الوجودية على عدة جبهات؟ في معرض الإجابة على هذه الأسئلة لا بد من فحص التوجهّات الاستراتيجية للوليات المتحدة والتحديات التي تواجهها.
ثانياً: المحددات التي تضبط
مدى تدخل الولايات المتحدة
المحددات الخارجية
بحسب بيان الموقف الصادر عن القيادة الاستراتيجية للولايات المتحدة بتاريخ 29 فبراير 2024، وعلى موقعها الرسمي، فإنّ الولايات المتحدة تواجه تحديات استراتيجية على عدة جبهات، وتزايد مستوى التنسيق بين الجبهات يعزز احتمال أن تواجه الولايات المتحدة أزمة أو صراعات استراتيجية متزامنة!
ويحدّد بيان الموقف هذه الجبهات كالتالي:
1 ـ الصين والتي تمثّل التحدي الأكبر والمنافس الاستراتيجي الأوّل للولايات المتحدة.
2 ـ روسيا والتي تمثّل تهديداً حاداً acute threat.
3 ـ كوريا الشمالية والتي يصل نطاق تأثيرها للقوّات الأميركية في المنطقة، وتهدد قدرتها النووية الأرض الأميركية وحلفاءها وشركاءها الإقليميين.
4 ـ جمهورية إيران والتي تملك طموحاً نووياً وتحوز ترسانة صواريخ باليستية تقليدية الأكبر في المنطقة، وبذلك تهدّد القواعد الأميركية مع إمكانية الوصول لأوروبا الجنوبية، بالإضافة لدعمها مجموعات مسلحة في الشرق الأوسط بالأسلحة التقليدية المتقدمة.
وترى القيادة الاستراتيجية أنّ أهمّ الأسلحة التي يمتلكها الخصوم هي:
1 ـ التهديد النووي المتعاظم.
2 ـ الأسلحة الفرط صوتية.
3 ـ قدرات القصف المداري الجزئي، أي القدرة على إطلاق صواريخ من الفضاء قد تكون محملة برؤوس نووية.
4 ـ احتمال عالٍ أن تمتلك الصين وروسيا أسلحة كيماوية وأسلحة بيولوجية.
ونرى أنّ أهم خطر استراتيجي أمام هيمنة الولايات المتحدة هو قدرة هذه الجبهات على تنسيق الجهود والخطط والعمليّات بالتزامن.
ولتوسيع الفهم الاستراتيجي لهذه الجبهات وتهديداتها، نستعيد خطة الأمن القومي الأميركي كما نشرت في أكتوبر 2022 – أي قبل عام بالتمام من اندلاع طوفان الأقصى- والتي ترسم الخطوط العامة للتوجهات الأمن -قومية الاستراتيجية للولايات المتحدة، وعلى أساسها تصاغ خطط العمل وتعد الموازنات. وتشير الخطة لخمسة محاور رئيسية.
المحور الأوّل: تعزيز واستدامة السيطرة على المحيط الهندي والمحيط الهادئ باعتبار هذه المنطقة مركز القوّة الجيوسياسية في العالم.
و(منطقة الهندي – الهادئ) هو مفهوم جيو ـ استراتيجي للتعبير عن المنطقة الجيوـ سياسية الجيوـ اقتصادية التي تغطي الساحل الغربي للولابات المتحدة الأميركية إلى الساحل الشرقي للقارة الأفريقية بما فيها كلّ دول منطقتي المحيط الهادئ والمحيط الهندي، هذه الدول ستملك نصف إجمالي الإنتاج العالمي بحلول 2040، ونصف انبعاثات الغازات الدفيئة، 65% من إجمالي سكان العالم، 37% من فقراء العالم، تسعة موانئ الأكثر ازدحاماً في العالم، 60% من حركة الملاحة البحرية الدولية، وسبعة من أكبر جيوش العالم، بما فيها ستة دول تملك أسلحة نووية. وفي هذه المنطقة ستدور رحى اللعبة الكبيرة الجديدة ومنها سترسم ملامح وقواعد النظام العالمي الجديد، وفي مواجهة مطامع الولايات المتحدة في الهيمنة عليها تقف الصين وكوريا الشمالية بالإضافة لبعض الدول الإسلامية مثل ماليزيا، ولذلك تضع الولايات المتحدة ثقلها الاستراتيجي لحسم الهيمنة على هذا المنطقة باعتبارها بوابة الهيمنة على العالم.
المحور الثاني: تعميق التحالف مع أوروبا وتعزيز قدرات الناتو، واعتبار أوروبا الجبهة الأمامية في مواجهة التوسع الروسي، ونلمس أنّ هذا المحور يتعثّر أمام النجاح الروسي في الحفاظ على استقرار ونمو اقتصادي وتطور عسكري استراتيجي وتحقيق حسم متدحرج في الحرب مع أوكرانيا.
المحور الثالث: تعزيز الديمقراطية والازدهار المشترك في الغرب ومحيطه، وفي مواجهة هذا المحور تعمل القوات اليمنية المسلحة بتشديد حصارها على المياه الإقليمية وباب المندب الذي يمر منه 40% من التجارة العالمية، بالإضافة للحصار الروسي المعاكس الذي المفروض على أوروبا من خلال تعطيل سلاسل الإمداد والطاقة، والتلويح الإيراني باستخدام مضيق هرمز الذي يمرّ منه خمس نفط العالم كورقة ضغط.
المحور الرابع: بناء الشراكة الأميركية الأفريقية للقرن الواحد والعشرين، على مبدأ الحفاظ على استدامة المصالح الاقتصادية والتحالفات، وفي مواجهته تعمل كل من روسيا والصين على توسيع شراكاتهما وعلاقاتهما في أفريقيا، في تزامن مع صحوة أفريقية للتخلص من تركة الاستعمار وتعزيز السيادة والاستقلال، والتي تبلورت في توجه دولة جنوب أفريقيا لمقاضاة إسرائيل دولياً متحدية في ذلك نظام الهيمنة الغربي.
المحور الخامس: خفض التصعيد ودعم الاندماج والتكامل في الشرق الأوسط، والذي تجسّد بتوقيع الاتفاقيات الابراهيمية التطبيعية، نحو تشكيل تحالف إقليمي لمواجهة التهديد الإيراني، وفي مواجهة هذا المحور اندلع طوفان الأقصى مجسّداً صدمة استراتيجية ليس فقط لـ «إسرائيل» بل لخطط الولايات المتحدة الأمن-قومية في المنطقة.
وبحسب خطة الأمن القومي الأميركي، «فقد ركزت السياسة الأميركية خلال العقدين الماضيين على التهديدات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واعتمدت سياستها على النهج العسكري، وعلى إيمان غير واقعي بالقوة وتغيير الأنظمة لتحقيق نتائج مستدامة، وتجاهلت كلفة الفرص البديلة للتبعات غير المحمودة والأولويات العالمية الأخرى بما فيها منطقة المحيطين الهادئ والهندي، وقد حان الوقت للتخلّي عن الخطط الكبيرة في الشرق الأوسط لصالح خطوات عملية يمكن أن تعزز المصالح الأميركية وتساعد الشركاء الإقليميين على تحقيق الاستقرار والازدهار، وذلك بالاستناد على ميزة الولايات المتحدة التنافسية الفريدة في بناء الشراكات والتحالفات لتعزيز الردع (لاحظ أنّ الميزة التنافسية المذكورة هنا ليست القدرة العسكرية أو القوة الاقتصادية)، واستخدام الدبلوماسية لتخفيف التوترات، وتقليل مخاطر النزاعات الجديدة، ووضع أساس طويل الأمد للاستقرار، وتوظيف الدبلوماسية والمساعدات الاقتصادية والأمنية لدعم الشركاء المحليين، ودعم توسيع وتعميق علاقات إسرائيل مع الجيران. ويستند إطار العمل الجديد للشرق الأوسط على وجود عسكري مستدام وفعال ويركز على الردع وتعزيز قدرة الشركاء وتمكين التكامل الأمني والإقليمي في ومواجهة الإرهاب وضمان التدفق الحر للتجارة العالمية، ويبني هذا الإطار على التقدم الأخير الذي حققته الدول الإقليمية لتجاوز خلافاتها، مع ضرورة مواصلة العمل مع الحلفاء والشركاء لتعزيز قدراتهم على ردع ومواجهة الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار، وتوظيف الدبلوماسية لضمان عدم امتلاك إيران لسلاح نووي، مع الاستعداد لاستخدام وسائل أخرى إذا فشلت الدبلوماسية، وعدم التسامح مع تهديدات إيران ضد الموظفين الأميركيين، وسنردّ عندما تتمّ مهاجمة مصالحنا». انتهى الاقتباس.
يمكن تكثيف التوجه الأمن-قومي الأميركي الاستراتيجي كما صيغ في أكتوبر 2022 كالتالي:
تعمل أوروبا والناتو على مواجهة الخطر الروسي وتكتفي الولايات المتحدة بالدعم، وتعمل إسرائيل وحلفاء التطبيع في الإقليم على مواجهة الخطر الإيراني وتكتفي الولايات المتحدة بالدعم عن بعد إلّا في حال تعرضها بشكل مباشر لاعتداءات إيرانية، وتتفرغ الولايات المتحدة للتعاطي مع التهديدات في منطقة الهادئ-الهندي.
وبخصوص الشرق الأوسط تسعى الولايات المتحدة لشرق أوسط أكثر استقراراً، من خلال تبني سياسات خارجية ناعمة هدفها استدامة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية وتأسيس تحالف إقليمي لمواجهة التهديد الإيراني، نحو ترتيب الشرق الأوسط بما يحفظ مصالحها قبل سحب ثقلها الاستراتيجي منه لتخصيصه في منطقة الهادئ-الهندي.
ومن هنا يمكن فهم محددات التناقض بين الولايات المتحدة الأميركية و»إسرائيل» في مواجهة الطوفان وتبعاته، إذ تحافظ الولايات المتحدة على دعمها الشامل لـ «إسرائيل» طالما أنّ القرارات الإسرائيلية لا تتعارض مع أو تلحق الضرر بالتوجهات الاستراتيجية الأميركية، وقد ساهمت قرارات وأنشطة الحكومة الإسرائيلية الحالية في مرحلة الطوفان في زعزعة التوجهات الاستراتيجية الأميركية للمنطقة، وظهر ذلك في عدة أمثلة منها:
ـ استفزاز جبهات الإسناد وجبهة إيران ومحاولة توريط الولايات المتحدة بحرب عسكرية في المنطقة، بما يناقض توجهاتها ومصالحها الاستراتيجية.
ـ فشل «إسرائيل» في تحقيق حسم سريع في الحرب المستمرة لسبعة أشهر ويزيد وفشلها في تحقيق نصر بتكاليف معقولة، وأثر ذلك على إدارة الموازنة الاستراتيجية الأميركية المخصصة لمواجهة عدة جبهات.
ـ اثر عمليات الإبادة الجماعية وقتل عشرات آلاف المدنيين والأطفال في إحراج الأنظمة العربية أمام شعوبها وبالتالي تهديد استقرارها ورفع كلفة التطبيع عليها.
وفي نفس الوقت ساهم الطوفان ووحدة الساحات وجبهات الإسناد في ضرب عناصر خطة الأمن القومي الأميركية في المنطقة وضرب أسفين في طبيعة العلاقة الأميركية الإسرائيلية، وتعطيل توجه خطة الأمن القومي الأميركي نحو تعزيز دمج «إسرائيل» بالمحيط بوقف قطار التطبيع قبل المحطة السعودية وهي الأهمّ، وبالتالي ضرب مسعى الولايات المتحدة لإنشاء حلف إقليمي في مواجهة الخطر الإيراني.
ويمكن اعتبار ردّ المفكر السعودي د. أحمد الشهيري على إيدي كوهين في برنامج «إسأل أكثر» على فضائية روسيا اليوم، رداً يلخص عمق التحولات على مستوى التطبيع والحلف الإقليمي، ففي مواجهة ادعاء ايدي كوهين أنّ السعودية تهرول للتطبيع مع «إسرائيل» لحمايتها من الخطر الإيراني، ردّ الشهيري: «أنّ إسرائيل لم تستطع حماية نفسها من الهجوم الجوي الإيراني، فكيف يمكن لها حماية غيرها!» هذه العبارة القصيرة تحمل دلالات بعيدة.
المحددات الداخلية
بالإضافة للتحديات الوجودية الخارجية تواجه الولايات المتحدة مجموعة من التحديات الاستراتيجية البنيوية الداخلية وأبرزها:
1 ـ خسارة تفوقها الاقتصادي الاستراتيجي لصالح الصين، وفقدان موقعها كمحتكر أوّل للتقدم العلمي والتقني والرقمي على مستوى العالم، بالاضافة لأزماتها المالية المتكررة وعدم قدرتها على خفض مؤشرات التضخم، والخطر الاستراتيجي الذي يهدد قوّة الدولار والنابع من بدء مجموعة من الدول التداول خارجه، إذ أنّ خسارة الدولار الأميركي لموقعه كعملة تداول عالمية سيضرب ركيزة رئيسية للهيمنة الأميركية العالمية، ونستعيد هنا ما قاله الرئيس بوتين في مقابلته الشهيرة مع تكر كارلسون: «أنّه من عدم الحكمة توظيف الدولار كسلاح للحرب».
2 ـ تآكل شرعية النموذج الديمقراطي الأميركي، والذي مثّل بالإضافة لمكافحة الإرهاب الأداة الإيديولوجية الأميركية لغزو العالم، ومن مسببات ذلك:
ـ تكرار توظيف الفيتو ضد قرارات منسجمة مع حقوق الانسان وتوجهات حقن الدماء.
ـ اللجوء للعنف المباشر لقمع الاحتجاجات الداخلية مثل «حركة احتلال وول ستريت» و»حركة حياة السود تهم» ومؤخراً «الانتفاضة الطالبية».
ـ التورّط على المكشوف في دعم عمليات الإبادة الجماعية في غزّة.
3 ـ انهيار تفوّقها الأخلاقي والحضاري وتكشّف زيف قيمها ومعاييرها المزدوجة، الأمر الذي من شأنه تصعيب وعرقلة مهامها الخارجية وفي نفس الوقت ضرب وحدة الجبهة الداخلية الأميركية، ورفع صعوبة تجنيد الشعب الأميركي للموت في حروب ضمان الهيمنة الأميركية، إذ أنّ البنية النفسية والمعنوية للجيش الأميركي غير متينة لفقدان عنصر الإيمان والقناعة بقيم وأخلاق صناع القرار الأميركان، خاصة بعد تاريخ طويل من الحروب والهزائم والفضائح في فيتنام والعراق وغيرها.
4 ـ تعالي أصوات لتيارات ومجموعات داخلية تزداد وعياً وتنظيماً وجذريةً تعارض السياسة الخارجية الأميركية وعلى رأسها سياسة الدعم غير المشروط لإسرائيل.
ثالثاً: تكثيف لواقع
الولايات المتحدة أمام تحديات العصر
بشكل متصاعد ومنذ الأزمة العالمية للعام 2008، ثمّ فشل كبير للدولة الأميركية في التعاطي مع تحديات جائحة كوفيد 19 وتبعاتها في مقابل نجاح النموذج الصيني وغيره، تفقد الولايات المتحدة قدرتها على صيانة هيمنتها على العالم، وبالتالي ترتكز خططها الاستراتيجية على ترحيل المسؤولية على الحلفاء والشركاء والاكتفاء بدعمهم عن بعد. فالولايات المتحدة الآن «overcommitted» أي أنّ التزاماتها الخارجية حول العالم أعلى من قدرتها على الوفاء بها، وهو المؤشر الرئيسي لإنهيار الإمبراطوريات تاريخياً، كما أنّ سياستها الخارجية تشوبها العقائدية والأيدولوجيا أكثر من العلمية والعقلانية، فهي سياسة غير قادرة على إدراك والتعاطي مع التحوّلات العميقة والواسعة على مستوى العالم، وتنتمي للقرن الماضي أكثر من انتماءها لهذا القرن، كما تفتقد الجرأة لمراجعة الافتراضات الرئيسية التي تنبني عليها الخطط والتوجهات، فعلى سبيل المثال، فشلت سياسات العقوبات الاقتصادية على روسيا وإيران في تحقيق أهدافها، وأمام هذا الفشل تذهب الولايات المتحدة لفرض المزيد من العقوبات! هذا الواقع خلق بيئة خصبة لنمو تيّارات وأصوات تعارض مبادئ السياسة الخارجية الأميركية التقليدية بما فيها علاقتها بـ «إسرائيل». مثلاً يقول جون هوفمان من معهد كاتو: «العلاقة الخاصة مع إسرائيل لا تفيد الولايات المتحدة بشيء، بل تعمل بشكل فعّال على تقويض المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، وأحياناً تلحق الأذى بالقيم التي تدّعي واشنطن أنها تدافع عنها».
رابعاً: استشرافات المستقبل القريب
بناء على كل ما تقدّم، فإنّ هذه الورقة تميل إلى استشراف ما يلي على المدى القريب:
ـ لن تتورّط الولايات المتحدة في حرب عسكرية مباشرة في المنطقة، وسيقتصر ذلك على الردّ المتناسب على الهجمات التي تطال القواعد العسكرية الأميركية والجنود الأميركان فقط.
ـ سيقتصر دعمها لـ «إسرائيل» في مواجهة الطوفان على الدعم الإعلامي والدبلوماسي وفي أروقة المؤسسات الدولية، والدعم المالي واللوجستي المقنن والمقيّد بتوفير الذخائر والأسلحة وغيرها من الاحتياجات.
ـ ما يعني ترحيل مسؤولية مواجهة التهديدات الأمنية والعسكرية في الإقليم على كاهل إسرائيل بشكل أساسي.
وبخصوص طبيعة العلاقة بين الصهيونية والإمبريالية الأميركية، وأخذاً بعين الاعبتار أنّ هيمنة الولايات المتحدة نفسها تواجه مخاطر وجودية، نميل إلى الاستشراف بأنّ «إسرائيل» في مواجهة الطوفان وجبهات الإسناد أمام اختبار وظيفي وجودي، إن أثبتت كفاءتها في الدور الموكل إليها بما لا يتعارض جذرياً مع التوجهات الاستراتيجية الأميركية، ستنجح في الحفاظ على موقعها في الحاضنة الأميركية، أما في حال فشلها، فستترك وحدها كجثة هشّة في محيط معادي.
*ورقة عمل مقدمة لمنتدى سيف القدس للتفكير الاستراتيجي

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى