فتوى الإمام الخميني لدعم المقاومة الفلسطينية بين تاريخ المكان وجغرافيا آخر الزمان
} محمد صادق الحسيني
يوم أجاز الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني وهو مبعد من بلاده في منفى النجف الأشرف العراقي في نهاية ستينيات القرن الماضي بالقتال الى جانب مجاهدي المقاومة الفلسطينية من كوادر حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، والقبول بأن يكون كلّ ذلك تحت قيادة ياسر عرفات، كما وأجاز بتقديم جزء من الأموال الشرعية أموال الخمس والزكاة وسهم الإمام لمساعدة مجاهدي الثورة الفلسطينية، كان كبار مراجع الشيعة والسنة من رموز وقادة من الحركات الإسلامية ودون استثناء تقريباً يخوضون جدالاً عدمياً حول مقبولية أو عدم مقبولية ممارسة فريضة الجهاد تحت راية حركة غير إسلامية وقيادة غير صالحة (تحت عنوان عريض لا يجوز تقديم المفضول على الفاضل)!
يومها قليلون هم مَن عقدوا العزم للالتزام بفتواه تلك والقيام بواجبهم تجاه فلسطين.
أما غالبية القوم ممن كانوا في عداد القيادات الإسلامية المخلصة فضلاً عن مناكفيه ومخالفيه فقد اعتبروه خارجاً على الأعراف والتقاليد، في الحدّ الأدنى، إن لم يكن بعضهم قد ذهب الى أبعد من ذلك بكثير!
من جملة القليلين الذين التزموا بتلك الفتوى، بل ووجدوا ذاتهم فيها وشعروا أنّ هويتهم الدينية والسياسية تتمّ إعادة صياغتها بقالب جديد كانوا الحركيين الإسلاميين من تلامذته المخلصين أمثال السيد حميد زيارتي ومحمد منتظري وعلي أكبر محتشمي والقائد الشهيد محمد صالح الحسيني الذي كان يتزعّم حركة الشباب المسلم وعدداً لا بأس به من تلامذته من الجنود المجهولين منهم من استشهد ومنهم من لا يزال على قيد الحياة…
وكذلك آخرين أحياء لا نريد ذكر أسمائهم الآن لأنّ منهم من انقلب على عقبيه ومنهم من اذا ذكّرته بتاريخه قد لا يعترف به، ولا داعي هنا للدخول بمثل هذا الجدل الذي قد يدخلنا في متاهات نحن في غنى عنها!
ولأن المهمّ هو فتوى الإمام الخميني غداة استمرارية فضاء إحياء يوم رحيله، دعونا نتحدث صراحة بعض الشيء لنأخذ العبرة من تلك الفتوى.
ماذا كانت تعني تلك الفتوى «الانقلاب»؟ نعم شكلت نوعاً من الانقلاب والطفرة الثورية الفريدة والمتميّزة جداً في ذلك الزمان:
أولاً: لانّ مرجعاً شيعياً مسلماً وإيرانياً يرى بأن الحدّ الأدنى من أولويات الواجب الديني لأيّ مسلم ملتزم هو ان يقاتل من أجل القدس وفلسطين ويساهم في تحريرها مهما كانت لديه من مهام «قطرية» وطنية او قومية او حتى عقائدية او مذهبية خاصة!
ثانياً: إن انعدام القيادة «الصالحة» من وجهة نظر الملتزمين الدينيين لا يعفي أحداً أبداً من القيام بهذا الواجب الديني تجاه قضية مقدّسة مثل قضية فلسطين!
ثالثاً: إن قضية فلسطين هي قضية مركزية للعرب والمسلمين ولا يجوز تبرير الانتظار (فلسفة الانتظار المهدوية التقليدية) لانبثاق قيادة صالحة حتى تتوافر الشروط الشرعية أو العقدية أو سمّها ما شئت حتى يقوم المسلم بواجبه وتكليفه الشرعيّ تجاهها!
رابعاً: إنّ الالتزام الديني لايّ مسلم إنما يختبر ميدانياً وفي كلّ ساعة بمدى التزامه بقضايا الأمة المركزية وتحديداً في عالم السياسة والجهاد والنضال وليس في عالم التجريد والتنظير و»انتظار الفرج السلبي» (وهي نظرية الانتظار التكاسلية التقليدية التي تنتظر تحقق علامات الظهور فقط لا غير). كما كان يروّج الكثيرون ولا يزالون سنّة وشيعة ومن كلّ الطوائف والشرائع والأطياف تهرّباً من تحمّل المسؤولية أو إلقاء اللوم على الظروف الموضوعية المحيطة.
خامساً: إن كونك مسلماً أو متديناً لديك قراءتك الخاصة في الفقه والعقائد والأصول لا يبرر لك مطلقاً ان تترك أخاك المسلم الآخر لأي فئة او مذهب او مدرسة فقهية انتمى يواجه مصيره وحده بحجة القراءة الفقهية او المذهبية او الطائفية المتفاوتة، لا سيما عندما يكون الموضوع من نوع فلسطين!
سادساً: إنّ الدين والسياسة صنوان لا ينفصلان، أصلاً لا يوجد شيء اسمه دين من دون سياسة او العكس لدى المتدين الحقيقي والواقعي، بمعنى أنّ الدين يساوي منظومة الحياة والموت والنظرة الكونية الشاملة للأمور والسياسة جزء منها، وهذا يختلف عن وجود مدّعين للدين يوظفون السياسة في خدمة إسقاطاتهم (قراءاتهم) الدينية الخاصة بهم، او ان لاعبي سياسة دجالين، وما اكثرهم لا سيما بين الحكام، يوظفون الدين كأداة في خدمة استبدادهم وإدامة نهبهم لثروات الأمة باسم الدين احياناً وبمساعدة ثلة من فقهاء السلاطين يعملون موظفين وبيادق لديهم!
سابعاً: إن مرجعية كمرجعية الإمام الخميني كانت ثاقبة النظر وبعيدة الأفق في نظرتها لأمور الشأن العام بحيث إنها قفزت فوق فروقات الفرق المذهبية الجزئية والتفصيلية وغير الجوهرية إن كانت شيعية او سنية أو كانت عربية او أعجمية، واعتمدت مرجعية القرآن في نظرتها لأنبل وأشرف وأطهر قضية عرفتها أمة الاسلام منذ مئة عام على الاقل.
يومها لم يكن لدى الإمام الخميني العظيم لا مصالح شخصية ولا حزبية ولا فئوية ولا مذهبية ولا قومية ولا حتى ذاتية تتعلق بالزعامة مثلاً حتى تضطره لاتخاذ مثل ذلك الموقف!
كما أنّ القضية الفلسطينية يومها لم تكن قضية «مربحة» (ربّيحة) أيضاً بالمعاني المادية بل كلها خسارة بخسارة (مادية) على المستويات الآنفة الذكر إذا ما أخذناها في ميزان المعادلات الدنيوية!
وهنا لا بدّ من التأكيد انّ الإمام الخميني، ربما حتى بعض أقرب الناس إليه من حيث العلاقة الشخصية او التشابه في الشكل الوظيفي الديني العام لم يكونوا ليتفهّموا ذلك الموقف إن لم يكونوا قد وقفوا ضده!
والدليل والشاهد على ما نقول هو تلك الحرب السرية والعلنية التي خيضت ضده وضد أي كادر من كوادره او مقلد من مقلديه أراد تفعيل تلك الفتوى يومها ومن أقرب الناس إليهم والى الدين في كل الساحات من العراق إلى إيران إلى لبنان وفي كل مكان !
أيضاً يومها لم يكن للإمام دولة ولا مصالح حكومية ولا نووي ولا استراتيجيات دول ولا تكتيكات حكومات قد دخلت بعد في حساباته، وقيادة النضال أيضاً لم تكن بيد الإسلاميين حتى نقول إنها جاءت في خدمة تلك الحسابات!
من هذا المدخل ينبغي أن نفهم ما قاله سيد المقاومة السيد حسن نصر الله وصاحب مدرسة الوفاء الأندر في تاريخ المناضلين والمجاهدين قبل أيام عندما وصف موقف الثوار الإيرانيين المسلمين والذين بات لديهم اليوم حكم وحكومة ودولة واستراتيجيات وتكتيكات بأنهم إنما ينظرون الى المنطقة كلهاـ بل والى خريطة العالم «بعيون فلسطينيّة»!
هو شخصياً وليسمح لي تأدّباً أنه وانْ لم يكن يومها شاهداً نشطاً وفاعلاً، على ذلك العصر العسير الذي مرّ علينا، لكنه يقرأ ببصيرة العارف والمتيقن الذي التقط الجوهر من مدرسة الإمام المؤسّس ومن ثم صار المعلم الأول الذي ساهم في صنع الانتصارات الأهمّ في تاريخ الأمة منذ أن تمسك بهذه المدرسة الأصيلة حتى صار يعرف معدن الرجال وكيف يميّز بين الذهب الصافي والذهب «الجلب»، كما يقول أخوتنا العراقيون!
بعدنا طيّبين قولوا الله…