أولى

آفاق إيقاف العدوان على غزة والسيناريوات المحتملة

‭}‬ زياد حافظ*
تملُّك محور المقاومة لورقة الردع الاستراتيجي يفتح آفاقاً جديدة لمسار مواجهة الاحتلال في فلسطين، والردع الاستراتيجي يظهر بوضوح أكثر الإخفاقات الاستخبارية والعسكرية لدى الكيان، حيث الميدان هو من يحدّد أفاق أي تسوية مستقبلية، هذا إذا كانت هناك من تسوية طويلة المدى. ميزان القوّة اختلّ لصالح المقاومة لكن لا الكيان ولا الولايات المتحدة على استعداد للإقرار بالواقع الجديد. لكن هذا الاختلال الموضوعي لا تقرّ به الولايات المتحدة ولا الكيان بشكل علني، لأنّ ذلك يعني خروج الولايات المتحدة بطريقة مذلّة من غرب آسيا والكيان الصهيوني إلى زوال فوري. فاستراتيجية الولايات المتحدة هي في المرحلة الحالية تهدف إلى تجميد الوضع بين المقاومة والكيان أسوة بما حصل في الحرب الكورية الذي نصّ على وقف العمليات العسكرية لفترة طويلة ما زالت مستمرّة حتى اليوم منذ الخمسينيات من القرن الماضي. وهذا ما تحاول الحصول عليه في أوكرانيا أي تجميد الجبهة والتكيّف مع الوضع الراهن حتى تتغيّر موازين القوّة إذا ما استطاعت تحقيقه. وهذا أمر مشكوك به لأن قدرة الولايات المتحدة ومعها مجمع الدول الغربية لم يعد بإمكانها إعادة بناء قوّاتها الذاتية التي كانت قد تلاشت لأسباب عديدة منها التحوّلات في البنية الاقتصادية والخروج من الحقبة الصناعية إلى الحقبة المالية الريعية الافتراضية. هذا ما تمّ تفصيله في التقارير السابقة ولا داعي لتكرار الخلاصات.
كذلك الأمر بالنسبة للكيان الصهيوني الذي أصبح بحاجة إلى فترة زمنية لإعادة بناء قوّاته قد تطول أو تقصر وفقاً للتطوّرات التي سيشهدها في المستقبل القريب بعد «طوفان الأقصى». غير أن ما هو مطروح الآن هو عرض آفاق مشاريع وقف النار أو إيقاف العمليات العسكرية. والمفاوضات تسير على قدم وساق برعاية قطرية ومصرية وبدفع أميركي وأوروبي. ليس هدفنا طرح تفاصيل وتقييم ما يُعرض على المقاومة بل للتأكيد على النقاط التالية:
أولاً ـ لقد أنجزت المقاومة نصراً كبيراً متعدد الأبعاد وذلك بغضّ النظر عما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات. فالمقاومة العسكرية التي ما زالت مستمرة حتى إعداد التقرير تشير إلى أنّ زمام المبادرة ما زال بيد المقاومة وأنّ كلّ ما أقدمت عليه قوّات الاحتلال أو ما يمكن أن تقدم عليه من عمليات عبثية كإعادة احتلال أجزاء من غزّة باتت بالفشل رغم القوة النارية التي تملكها تلك القوّات. واستمرار العمليات بسبب التعنّت الصهيوني يساهم في تآكل القدرات العسكرية لديه. فهذه أطول حرب خاضتها قوّات الاحتلال دون تحقيق أيّ إنجاز. هذا بحدّ ذاته نصر للمقاومة.
ثانياً ـ إذا النصر العسكري الذي كان مستحيلاً في مخيّلة الجميع في المرحلة السابقة أصبح واقعاً يقيناً. اما اليوم فتصبح المهمة الأكثر صعوبة هي الحفاظ وتحصين ذلك النصر. هنا تكمن إشكالية المفاوضات الجارية في عدة عواصم عربية حيث الضغط على المقاومة هو لتقديم «تنازلات» للعدو مقابل وقف العدوان. لكن ما هي عناصر القوّة لدى المقاومة في التفاوض وما هي عناصر الضعف؟
عناصر القوّة هي: النقطة الاولى، هي الثقة بالقدرات الذاتية للمقاومة وبقدرات المحور بكل مكوّناته وذلك على مستوى القيادة والأداء والإمكانيات المادية والمعنوية والسياسية. فهذه المقاومة تملك فائضاً من القوّة وفائضاً من القيمة، والفائضان يغذّيان بعضهما بعضاً في علاقة انعكاسية فريدة من نوعها.
النقطة الثانية، هي امتلاك المقاومة التقدير الدقيق لموازين القوّة في الإقليم وفي العالم وبالتالي تعي أن العدو وحلفاءه في حالة ضعف بنيوي كبير. وهذا التقدير يجعل المقاومة قادرة على المناورة وإظهار مرونة شكلية تسقط أوراق التين التي تخفي عورات العدو وحلفاءه الدوليين وفي الإقليم. وهذه المرونة تتجلّى في التحكم على عامل الوقت حيث ذلك العامل يعمل لصالح مشروع المقاومة وليس لرغبات العدو. فإطالة المفاوضات تتلازم مع إطالة المواجهة في الميدان. والسؤال يصبح ما هي قدرة العدو وحلفائه على الاستمرار في العدوان؟ فالخسارة المادية للمقاومة محدّدة وقد تحققت بالقصف الوحشي والحصار المزمن تعوّضها بربح استراتيجي معنوي وسياسي. اما الخسارة المادية والمعنوية للعدو فهي غير محدودة يضاف إليها الخسارة الاستراتيجية المحققة في معركة الرأي العام العالمي.
النقطة الثالثة هي أنّ المقاومة في فلسطين وسائر الجبهات المساندة في أحسن موقف يمكن تصوّره. فإذا توقف القتال فهي منتصرة وإذا استمرّ القتال فهي منتصرة. في المقابل، مهما كانت المحاولات للحفاظ على ماء الوجه للعدو وللولايات المتحدة فإن وقف القتال هو هزيمة استراتيجية ومعنوية لا تعوّض. وإذا استمرّ القتال فالهزيمة أكبر. إذا، موقف العدو هو تخفيف قدر الإمكان الخسائر وليس تحقيق الربح.
أما عناصر الضعف فهي في الأساس الكلفة البشرية الباهظة التي يدفعها أهلنا في غزة. لكن المقاومة لا تقدّر الموقف على قاعدة حسابات والربح البشري والمادي بل على قاعدة النتائج السياسية. العنصر الثاني هو ضعف الموقف العربي بشكل عام الذي ما زال غائبا عن إظهار أي مساندة لفلسطين. بل يمكن القول إن الموقف العربي يضغط على المقاومة للقبول بـ «تنازلات». لكن هذا الضعف في الموقف قد يرتدّ في مرحلة لاحقة على القيّمين على النظام الرسمي العربي. العنصر الثالث هو عدم إقبال الدول الصديقة لمحور المقاومة على الضغط على الكيان للاستجابة لمطالب المقاومة. فلا الصين ولا روسيا حتى اللحظة مستعدّتان للخروج عن إطار المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي تؤكّد على عدم المسّ بسيادة الدول، بما فيها الكيان. العنصر الرابع هو عدم التوازن في القدرات النارية بين العدو والمقاومة إلاّ أن الكفاءة التي أظهرتها فصائل المقاومة في القتال استطاعت في تحييد نسبي لتلك القدرات عبر فرض القتال من مسافة صفر.
ثالثاً ـ وقف القتال الفوري هو حاجة للكيان وللولايات المتحدة أكثر مما هو حاجة للمقاومة التي تستطيع أن تتحمّل الكلفة البشرية في غزّة بسبب دعم الأهالي وصمودهم الاسطوري وأن تستمر في قتال طويل المدى وعلى نفس الوتيرة. وهذه الحاجة تجعل أي خطوة يقدم عليه العدو وحلفاؤه خطوة قاتلة له كما في لعبة الشطرنج المعروفة بـ «زوغ زوانغ» (zugzwang). وهذا يحصل عندما يخطئ اللاعب في استراتيجيته ويضع نفسه في حال أن أي خطوة في اللعبة ستقضي عليه وتحتّم الخسارة. والمرونة التي تمارسها المقاومة في المفاوضات تتلازم مع أداء مميّز في الميدان ما يساهم في تعرية العدو وحلفائه. وهذه الحالة تشبه حالة التفاوض بين الفيتناميين والأميركيين قبل الوصول إلى وقف إطلاق النار ومن بعد ذلك الانسحاب المذّل للقوات الأميركية من فيتنام سنة 1975.
رابعاً ـ استقلالية المقاومة لا تعني غياب التنسيق مع المكوّنات الأخرى للمقاومة. كما أنّ وحدة الساحات لا تلغي الاستقلالية للقيادات في مختلف الساحات. وهذا التكامل النموذجي قد يشكّل قاعدة لنظام عربي في غرب آسيا مختلف عن النظام الموروث من حقبة سايكس بيكو.
بناء على ما تقدّم من تقدير موقف فإن زمام المبادرة أصبح بشكل قاطع في يد المقاومة. غير أنه يمكن رصد على الأقل ثلاثة سيناريوات محتملة لمسار ومصير المعركة وبالتالي الكيان.
السيناريو الأول هو سيناريو التفكّك الداخلي في الكيان سواء أقدم على القبول بوقف إطلاق النار بشروط المقاومة أو أقدَم على الحرب المنخفضة الوتيرة ولكن التي تستنزف قواه. التفكّك الداخلي هو ثمن القبول بوقف إطلاق النار لأن الانقسام الداخلي حول استمرار الحرب حاد. استطلاعات الرأي العام الداخلي تشير إلى تراجع مؤيّدي استمرار الحرب بعد قبول المقاومة المشروع الذي أعدّته كل من مصر وقطر وبموافقة أميركية. تحرير الأسرى المرتبط بإنهاء الحرب على غزة يضع حكومة نتنياهو في مأزق. فالقبول بوقف إطلاق النار يطيح بالحكومة ويفرض الدعوة إلى انتخابات جديدة. وبما أن الانتخابات المتكرّرة في السنوات الماضية أكّدت حدة الاستقطاب الداخلي فمن المتوقّع أن الانتخابات المقبلة لن تحسم الاستقطاب فستبقى الحكومة هشة.
الحكومة الجديدة ستواجه مساءلة ومحاسبة الحكومة السابقة كما ستواجه رأياً عاماً دولياً غير مؤيّد لها. كما أن على الحكومة الجديدة مهمة إعادة الثقة للمستوطنين المستعمرين في غلاف غزة وفي شمال فلسطين. وهذه الثقة مهتزة بعد الأداء السيّئ لقوّات الاحتلال ما يجعل عودة السكان إلى شمال فلسطين وغلاف غزة أمراً مشكوكاً به. أضف إلى كلّ ذلك الخلافات الداخلية التي سبقت «طوفان الأقصى» والتنافر بين المتديّنين والعلمانيين. والجدير بالذكر أنه تمّ تسليح المتديّنين الذين سيعارضون أي مشروع تسوية وأي مشروع داخلي يمسّ بامتيازاتهم.
أما على الصعيد الخارجي فسمعة الكيان هشّة للغاية وسيواجه الكيان عزلة متزايدة وشديدة من قبل دول الجنوب الإجمالي وبرودة من قبل شعوب الدول الغربية إن لم تقدم الحكومة الجديدة على مساءلة ومحاسبة حكومة نتنياهو ليس على الإخفاقات فحسب بل على الجرائم التي ارتكبتها قوّات الاحتلال. لذلك من المستبعد أن يستعيد الكيان عافيته السياسية على الصعيد الدولي وعافيته الاقتصادية على الصعيد الداخلي. هذا ما سيزيد في وتيرة الهجرة من الكيان ويمهّد للانهيار الداخلي.
السيناريو الثاني هو العمل على إقامة حل الدولتين على حدود 1967. من يروّج لذلك الحل عليه أن يقدّم رؤية حول معالجة قضية المستوطنين المستعمرين في الضفة الغربية حيث تجاوز عددهم 700 ألف ومعظمهم مسلّحون. كما أن حل الدولتين يعنى التخلّي عن الجولان والقبول بتقسيم القدس. فهل هناك من يستطيع أن يروّج لذلك الحل ضمن النخب السياسية في الكيان؟ وهل ستتراجع الولايات المتحدة عن اعترافها بضم الجولان إلى الكيان؟ وهل ستقبل بتقسيم القدس والعودة إلى ما قبل 1967؟ أسئلة من الصعب الإجابة عليها وفقاً للمعطيات القائمة. فإذا كان هذا هو الحل فهذا يعني نهاية المشروع الصهيوني في فلسطين وفي غرب آسيا. فهل تستطيع النخب السياسية في الكيان التكيّف مع هذا الواقع؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام فقدان الدور الوظيفي للكيان؟
السيناريو الثالث هو المنازلة الكبرى بين كافة مكوّنات محور المقاومة والكيان الصهيوني. هذا السيناريو يفترض أن الحماقة تسيطر على عقول النخب الحاكمة في الكيان وفي الولايات المتحدة. وقد يكون ذلك ممكناً لأنه يشكّل هروباً إلى الأمام من قبل نتنياهو الذي يواجه مساءلة ومحاسبة سياسية وقانونية تنهي حياته السياسية وربما ترسله إلى السجن بسبب تهم الفساد. لكن الهروب إلى الأمام لن يتحقّق إلاّ بموافقة الإدارة الأميركية التي هي مصدر تسليحه وتزويده بالذخيرة. والقدرة العسكرية لحسم الحرب غير موجودة بعد أكثر من 8 أشهر في مواجهة المقاومة في غزّة، فما بال مواجهة كل مكوّنات المقاومة في آن واحد؟ والرد الإيراني على استهداف الكيان للقنصلية الإيرانية في دمشق أظهر الإخفاق الصهيوني. فلولا التدخل الأميركي والبريطاني لكانت محصلة الرد الإيراني أكثر كارثية على الكيان. فهل يستطيع الكيان أن يتجاوز الموقف الأميركي الذي لا يستطيع أن يتحمّل أعباء منازلة كبيرة في غرب آسيا؟ لا نعتقد ذلك لكن الحماقة قد تتجاوز كل الاعتبارات العقلانية خاصة إذا ما أقدم على استعمال الورقة النووية وما سينتج عن ذلك من كارثة في المنطقة بل في حتمية زوال الكيان بشكل نهائي. لذلك يمكن القول إنه مهما فعل الكيان في أي من السيناريوات الممكنة فهو في مأزق. فزواله أصبح مسألة وقت حيث السيناريو الأول والثاني هو الموت البطيء بينما السيناريو الثالث هو الموت السريع.
لكن في كافة الاحتمالات فإنّ الدور الوظيفي للكيان قد انتهى والسؤال هل يستطيع الغرب أن يتحمّل عبء وجود الكيان بعد أن تبيّن أن الكيان بحاجة لمن يحميه بدلا من أن يحمي مصالح الغرب؟ وهذا السؤال يجرّ إلى سؤال آخر حول مصير النظام العربي الذي انشأته اتفاقية سايكس بيكو. فإذا الدور الوظيفي للكيان انتهى فمنظومة سايكس بيكو سقطت معه. وهنا يجب التفكير في مرحلة ما بعد «طوفان الأقصى» من منطلق إعادة تركيب النظام السياسي في المنطقة وليس من منظور «إعادة إعمار» القطاع. هذا لا يقلّل من أهمية إشكالية إعادة الإعمار لكن القاعدة السياسية التي سترتكز إليها غير موجودة حتى الساعة والمشاريع المطروحة حول مستقبل غزّة لا توحي بإن القاعدة السياسية لها يمكن أن تثبت وتنجح. فالضعف الغربي وترهّل النظام العربي لا يمكن أن يشكّلا قاعدة لمنظومة سياسية تفي بالغرض. هذا موضوع يحتاج إلى بحث منفصل لكن لا يمكن تجاهله الآن لأنّ موازين القوّة في غرب آسيا لم تعد تسمح بمقاربات مبنية على فرضيات موازين القوّة التي كانت في القرن الماضي.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي
والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى