مقالات وآراء

حلّ الجمعية الوطنية الفرنسية: خياطة استراتيجية التوتر حتى الخراب

‭}‬ ميرنا لحود
بات معروفاً أنَّ رجل البيع والشراء في كواليس السياسة الفرنسية هو جاك آتالي. ومن يدرك السياسة الفرنسية يعرف أنَّ اتخاذ قراراتٍ من أمثال حلّ الجمعية الوطنية أو التنازل للجانب الأميركي ـ الأطلسي عن شركات فرنسية حساسة يعود في الطليعة لرجل الظلّ الذي كان دائماً وراء التعايش في عهدي الرئيسين السابقين فرنسوا ميتيران وجاك شيراك ورافق باقي «نادي الرؤساء الصغار» من ساركوزي إلى هولاند فماكرون.
أهمية الانتخابات الأوروبية وحلّ البرلمان:
أحدثت الانتخابات الأوروبية زلزلةً غير عادية، رغم أنَّها لا تؤثر كثيراً لا في البرلمان الأوروبي ولا في داخل بلدان أعضاء الاتحاد. وأدى الإرباك هذا بكافة الأحزاب في أوروبا وتحديداً في فرنسا إلى حلّ الجمعية الوطنية. والسؤال: ما وراء ذلك؟
يعود السبب الأول إلى تدني المستوى الثقافي السياسي في أوروبا وخاصةً في فرنسا وهذا مقصودٌ من قبل الأميركي. فبعد أن أصبحت أوروبا أطلسيةً، لا حاجة إلى مسؤولين غير منتمين لحزب الميم (مُتحوّر جنسياً ومُتصهين و»مُستهبل» ومُستعرب ومثليّ ومتهور ومستخف…)، عكست الانتخابات الأوروبية الجو العام السائد في الداخل الأوروبي وهي أشبه بميزان الحرارة. فتقدّم حزب اليمين المتطرف مثلاً في فرنسا هو لعبة أرقام خطيرة؛ تُستخدم عند الحاجة ويتم شيطنُتها في الوقت المناسب ليفوز المتربّع على السلطة. وللتوضيح، إنَّ مسألة التطرف في أوروبا وخاصةً في فرنسا لا تستثني أي حزبٍ وفي الطليعة حزب اليسار. فهذا فيروسٌ مُعدٍ ويعاني منه الجميع. علاوةً على ذلك، إنَّ كافة الأحزاب في فرنسا خاصة اليسار تتلقّى دعماً مالياً من «الصندوق الوطني للديمقراطية» وهو منظمة تابعة مباشرةً للـ «سي آي أي». ويعمل في تلك المنظمة مجموعة من الأعضاء المنتمين إلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري وتحظى بتأييدٍ واسعٍ من الكونغرس الأميركي، ما يجعل الجميع في الخانة نفسها رغم اجتهاداتهم لإظهار تبايناتهم؛ فالمصلحة العليا هي تطبيق ديمقراطية الشيطان الأميركي الصهيوني.
أمّا المكسب الثاني: إنَّ حلَّ الجمعية الوطنية ضربٌ من الخلاعة السياسية تُسهّل من تعميق الخلافات بين الأحزاب المتناحرة في ما بينها. وأظهرت النتائج تقدم حزب «التجمع الوطني» بفارقٍ كبيرٍ عن اللائحة الثانية التابعة ل»تجمّع ماكرون» وحزب اليسار بشخص يدعى رفائيل كلوكسمان. سياسياً لا أحدَ يعرف الرؤية والاستراتيجية المستقبلية لكل من الذين برزت لوائحهم بغض النظر عن بعض المفردات المستخدمة بين هذا وذاك والضخ الإعلامي بهدف الترويج لهذا وذاك، فهناك قاسمٌ مشتركٌ يربط هؤلاء بعضهم ببعض مع اختلاف الاستراتيجيات.
1 ـ تظهر علاقة مباشرة سواء كان للأحزاب أم للشخصيات مع الـ «سي آي أي». وبالعودة إلى الأرشيف والتاريخ المُعتَّم، يُعرف عن جان ـ ماري لوبن أنه شارك في تظاهرات ضد الجنرال ديغول وعُرض عليه قيادة الجبهة الوطنية بعد اغتيال رئيسها ولم يقع الاختيار على جان ماري لوبن إلاَّ لأنه كان مدعوماً من قبل الـ «سي آي أي». فتغيّر اسم الحزب لن يفلح في تغيير الجوهر. أما «تجمع ماكرون» المنقلب من «الأمام» إلى «الجمهورية إلى الأمام» فـ «النهضة» فهو تجمع لا يستمر إلاَّ مع استمرار تدفق الأموال من الأولغارشية المتمركزة في الخندق الأميركي ـ الأطلسي. يليه وفق النتائج لائحةٌ لليسار بقيادة رفائيل كلوكسمان وهنا بيت القصيد. نبذة عن شخصية هذا الرجل: هو ابن أندريه كلوكسمان المدعوم من الـ «سي آي أي» مباشرةً المنتمي إلى «الدائرة الخطابية». عمل رفائيل كلوكسمان في مجلة Le Meilleur des Mondes «أفضل ما في العالم» المرتبطة بـ «الدائرة الخطابية» التي استمرت من 2006 إلى 2008 والتابعة لمجموعة Think Tank (مؤسسها بريجنسكي وديفيد روكفولير وكيسنجر) الأميركية المعروفة باستقطابها للمحافظين الجدد. وحتى عام 2012 عمل رفائيل كلوكسمان كمستشار لرئيس جورجيا آنذاك ميكائيل سعكاشفيلي ومن ثم انتقل إلى أوكرانيا عام 2013 لدعم وتقديم النصائح لفيتالي كليتشكو أحد أبرز المعارضين في ساحة الميدان الموالين للغرب. وخلال مغامرته في جورجيا، تزوج من إيكا زغولادزي صاحبة الصيت الصاخب والتي عُينت في عهد الرئيس ساكاشفيلي نائب وزير الداخلية من 2005 إلى 2012 ومن يوليو إلى أكتوبر 2012 شغلت منصب وزيرة للداخلية بالإنابة. انتقل الزوجان إلى أوكرانيا وشاركا في نشاطات الثورة في ساحة الميدان تحت قيادة فيكتوريا نولند مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون الأوروبية والأوروبية الآسيوية والتي كانت ناشطة في تفعيل «الثورة الأوكرانية» في ساحة الميدان. وبعد حصول إيكا زغولادزي على الجنسية الأوكرانية شغلت في ديسمبر 2014 منصب نائب وزير الداخلية الآوكرانية في حكومة أرسيني ياتسينيوك.
2 ـ بدأت الماكينة الإعلامية ومنذ فترة طويلة تروّج لهؤلاء البارزين في الانتخابات الأوروبية كاحتمال بديل مكان ماكرون في المستقبل القريب، ما يعني تغيّر الأسماء والوجوه دون المساس بالجوهر. أمَّا ماكرون فهو يحاول ضرب الجميع مع حلّ المجلس الوطني لأنَّ الوقت لا يسمح لأحد في خوض انتخابات «عادية». ففرنسا تتحضّر لاستقبال الألعاب الأولمبية في تموز المقبل والفائز المقبل كرئيس للوزراء سيقع عليه تحمّل كافة الأخطار خاصة الأمنية منها، وهكذا يحاول ماكرون إلباس فشله للآخرين طالما أنَّ هناك من هو مستعدٌ ويقاتل لتبوؤ منصب في السلطة. ويكون بذلك قد حضّر الرأي العام الفرنسي إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة ليقول «لقد خسرتم إذن انضمّوا إلى تجمعي لنشكل الأغلبية» لأنَّها غير متوفرة ولن تتوفر في ظل الأوضاع الحالية.
والمكسب الآخر الذي لا يقلّ أهمية عما سبق هو إبعاد الأصوات المرتفعة ضدّ الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان المؤقت على غزة والشعب الفلسطيني. واضح أنَّ هناك تراجعاً للأحزاب في فرنسا وأوروبا التي رفعت صوتها ضد ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من إبادة وتجويع وحصار. فبعدما كان حزب فرنسا الأبية في المرتبة الثالثة في البلد ها هو في تراجع في الانتخابات الأوروبية مقابل رفائيل كلوكسمان رجل اللحظة الغريبة واليقظة العجيبة. ويؤشر ذلك إلى أنَّ «فبركة القناعة» تجعل قبول اللامعقول واللامنطقي لتدفع بالسياسات الخبيثة على حساب الثقافة السياسة. كتب الجنرال ديغول عن إنزال النورماندي بأنَّه احتلال أميركي وبريطاني لفرنسا. فمنذ بدايات الألفية أخذ الإعلام يروّج لفكرة النصر الفرنسي على يد الأميركي حتى كُتُب التاريخ عدّلت من حقيقة الرواية الأصلية. لقد أصبح النصر أميركياً بعدما كان بفضل الاتحاد السوفياتي السابق، هذا غيض من فيض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى