«التطبيع» الممنوع… بين خيارات الأنظمة وقدر الشعوب
} يوسف هزيمة*
كثر استخدام مصطلح التطبيع في الآونة الأخيرة بالأدبيات السياسية على الصعيدين العربي والعالمي، حتى لا تكاد تمرّ نشرة للأخبار أو حوار سياسي، إلا وكان المصطلح حاضراً.
ظهر المصطلح بقوة مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، وتربّع على عرش المصطلحات السياسية وغير السياسية. والتطبيع المقصود هنا هو السياسي المحض بمنأى عن علم الاجتماع وحتى السياسي منه، ولو كان يستحيل قراءة مصطلح كهذا من زاوية سياسية فحسب.
وإذا كان المصطلح يُتدَاوَل بشكل واسع في الشهور المنصرمة، فإن ظهوره سبق الشهور الآنفة بأشواط طويلة، تعود إلى نهايات العام 1978 مع توقيع معاهدة «كمب ديفيد» بين مصر وكيان الاحتلال «الإسرائيلي» في خطوة شكلت مفصلاً وربما تحوّلاً مذهلاً في العلاقات بين كيان العدو وبين العرب، وتحديداً بين الكيان وبين الأنظمة العربية، التي بدأت بالنظام في مصر الذي كان برأسه أنور السادات، ولم تنتهِ بالإمارات العربية المتحدة مروراً بالأردن والسلطة الفلسطينية والبحرين وعُمان واللائحة قد تطول…
وإذا كانت عملية طوفان الأقصى قد فرملتْ خطوات التطبيع السعودي، التي يبدو أنها كانت سريعة، فإنها لم تلغها، وما زال السائس السعودي موجهاً خيوله البِيض ومعها الرايات البِيض أيضاً لا الحُمر، نحو كيان الاحتلال منتظراً صفّارة قد تطلَق مع نهاية طوفان الأقصى التي إنْ طالتْ لن تنتظر نهايتها، وقد يُطلق العنان لها قبل ذلك.
بالعودة إلى المصطلح المستورد كمعظم مصطلحاتنا السياسية من بلاد العم سام والانغلوساكسون، فإنّ فيه من المعاني المغلوطة ما قد يفسّر على غير ما تشتهي سفن لغة الضاد، وليس أقلّ هذه المغلوطات انه دعوة إلى جعل العلاقة طبيعية، ونتحدث عن العلاقات العربية – الصهيونية. وهي لم تكن يوماً طبيعية ولا حتى عادية، ويجب ألا تكون طبيعية ولا عادية، مع كيان اغتصب أرضنا، وهجّر أهلها، وارتكب وما زال المجازر على يد مؤسّسيه الصهاينة مدعومين من الغرب الأميركي وغير الأميركي.
ولسائل ان يسأل: إذا كان المصطلح الآنف المستورد مغلوطاً أو ملغوماً، وكثير من مصطلحاتنا كذلك، فما البديل عن «التطبيع»؟ قد يكون طرح السؤال بذاته اعترافاً بالتسليم بحضور معاني المصطلح، وبأنه لا بد من البحث عن مصطلح مرادف ينسجم مع أدبياتنا السياسية، والتسليم بحدّ ذاته موضع تساؤل، ومردّ ذلك عن جدوائية إقامة علاقات مع «إسرائيل». وهنا يُطرح سؤال آخر: طالما انّ أنظمة عربية عديدة جعلت علاقاتها مع كيان العدو «طبيعية»، فهذا يجعل المصطلح حاضراً في الأدبيات السياسية، وإلا فالبحث عن البديل. وهذا سؤال واقعي، وعليه فإنّ الذين أقاموا علاقات مع الكيان الصهيوني قد ساروا في عملية «التطبيع» فيمكن القول حينها انهم أذعنوا لـ»إسرائيل» الذي ساد منطقها… وحتى لا نذهب بعيداً في الإسهاب، فإنّ كلمات من قبيل: التطويع أو الأسْرلة، كما يطيب لبعضنا أن يسمّي، أو إقامة علاقات مع العدو… هذه كافية لتؤدي المعنى، وتقينا شر المصطلح وشر تبعاته.
إذن ثمة أنظمة عربية أقامت علاقات طبيعية مع كيان الصهاينة، ويبدو أنّ أنظمة أخرى ستحذو الحذو ذاته حتى لتصبح غالبية الأنطمة ذات «علاقات طبيعية» مع «إسرائيل»، وهذا ما تطمح اليه الأخيرة، التي عينُها القريبة على السعودية، وعينُها البعيدة على العراق واليمن ولبنان وسورية. واذا كانت عينها القريبة قد تبصر النور جيداً إلا أنّ العين البعيدة ستقُفع بفعل المقاومة ولا شيء غير المقاومة. واذا كان ما يسمّى زوراً تطبيعاً هو خيار الأنظمة فهل هو قدر الشعوب!
الأرجح انّ «التطبيع» سيبقى ممنوعاً ومقتصراً على العلاقات الدبلوماسية، ولا يتعدّى إلى العلاقات الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية… وفي أحسن الأحوال يكون الاحتلال الذي أقام علاقة مع هذا النظام أو ذلك، قد استطاع رفع علَمه يتيماً في هذه العاصمة على سطح مبنى، كلما مرّ من أمامه مواطن عربي، شعر انه يمرّ من أمام حاوية من حاويات النفايات ليس أكثر. وأخيراً إنْ كان «التطبيع» خياراً للأنظمة فإنه لن يكون قدراً للشعوب…
*كاتب وباحث سياسي