أولى

أهمية المقاومة بالكلمة والصورة

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
واهمٌ من يظن أن المهمة التي يضطلع بها الكتَّاب والمحللون والمفكرون وصناع الرأي العام مهمة عادية، أو أنها أقل ضراوة من مهمة حمل السلاح والانخراط في ميادين الصراع المزمن على امتداد جبهات الاشتباك المفتوحة بالمدى والاحتمالات. فالصراع الذي دخل مرحلة جديدة وغير مسبوقة من «كسر العظم» بعد السابع من تشرين الأول 2023م. لم يعد كما كان، بل انتقل بالمنطقة والعالم من تموضع جيوبوليتكي مفروض، إلى تموضع جديد ترتسم معالمه ممزوجة بالكثير من الدماء والتضحيات. وما يميّز هذا الفصل الجديد من الصراع بلوغ الذرى في مختلف الجوانب والمستويات، وليس بالعسكرة فقط، أي أنه صراع مركب ومعقد يتضمّن في تداعياته غالبية مناحي الحياة العسكرية والمجتمعية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية، والمتابع الموضوعي يدرك أنّ المواجهة القائمة تشتدّ ضراوة يوماً بعد آخر، وهذا يعني ازدياد المخاطر والتهديدات بالقدر نفسه لازدياد الفرص لدى أطراف الصراع الذي سيصل في يوم ما عاجلاً أم آجلاً إلى محطة صرف المنجزات والخيبات على طاولة السياسة، وأخطر ما في الأمر أن المرحلة التالية من الصرع والاشتباك سترتكز على ما يتمّ إرساؤه من قواعد ومحدّدات ما تزال معالمها العامة قيد التبلور، ولا يستطيع أي طرف ـــ حتى الآن ـــ الادعاء بالقدرة على فرض إرادته، فلا المحور الصهيو ـــ أميركي قادر على تسويق صورة انتصار، وإرغام أطراف محور المقاومة على القبول والتسليم بتفوّق أنصار القوة العسكرية، وقدرة آلة القتل والتوحّش على سفك الدم والإجرام عاجزة عن فرض شريعة الغاب على الرغم من المستويات المتعددة وغير المسبوقة التي بلغها التوحّش والإفراط في عمليات الإبادة الممنهجة من دون وازع من ضمير أو حساب للمدخلات الجديدة التي أدخلتها المقاومة على الرأي العام الإقليمي والدولي. وفي الوقت نفسه فإن محور المقاومة ــ برغم الأداء الإعجازي لجميع أطرافه وأقطابه ــ ليس قادراً على دفع أطراف المحور الصهيو ــ أميركي للاقتناع بمشروعية المقاومة واستحالة مصادرة إرادتها، وعلى الرغم من عظمة ما أنجز على صعيد الرأي العام إلا أنه ما يزال متعذراً إقناع المعسكر الأكثر إجراماً وتنكراً لكل ما له علاقة بالقيم الإنسانية وأعراف المجتمع الدولي بعقم الاستمرار بمثل هذه السياسة العدوانية التي لم تجلب لأصحابها في هذه الجولة الجديدة من الصراع إلا المزيد من الإخفاق الاستراتيجي والفشل في استخدام عوامل القوة والردع التي كانت أداة أولئك لمصادرة إرادة المجتمع وقراره، ويبدو أنه اقترب موعد تحرير البشرية من إبقائها رهينة البارانويا والنرجسية المفرطة بآن معاً.
الأكثر غرابة في الأصوات النشار التي ترتفع منذ أشهر تلك النبرة المشبوهة والتساؤل الخبيث عن جدوى الاستمرار بالكتابة عن الصمود والمقاومة، طالما أن الثمن باهظ والتكلفة مرتفعة جداً، والفاتورة المطلوبة مسبقة الدفع وليست لاحقة التسديد، ومن الممكن والميسّر توفير كل ذلك بتغيير المنطلقات، والكفّ عن المكابرة، والتسليم بعقم المواجهة، لأن واشنطن تصطف بكل ثقلها مع الكيان الإسرائيلي، وأثبتت أنها طرف أساسي في هذه الحرب، وليست مجرد داعم بلا حدود لحكام تل أبيب. ومن الطبيعي أن يتضمّن أي ردّ على أولئك التشديد على أن كل مقاوم ـــ وعلى تنوّع أشكال المقاومة ـــ يدرك أن واشنطن فاعل أساسي في هذه الحرب، ولأن ذلك كذلك فاستمرار منع مصاصي الدماء، وأعداء إنسانية الإنسان من تحقيق أهدافهم الشريرة واجبٌ شخصيٌ ووطنيٌ وأخلاقيٌ وإنسانيٌ، وهو فرض عين وليس فرض كفاية على مَن يستطيعه، وكما أن إقامة الصلوات اليوم لا تعفي المصلي من واجب إقامتها غداً، كذلك لا يعفي المقاومين بالكلمة قول كلمة الحق في جولة من جولات صراع الحق ضد الباطل، ولا يبيح لأي منهم ترف التفكير بالانكفاء في يوم لاحق، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعض الأفكار الرئيسة والعناوين العريضة التي تساعد في فهم حقيقة هذا الأمر ومدى خطورته، ومنها:
*أهميّة المقاومة بالكلمة، وتفعيل الطاقات لمواجهة الأخطار الوجودية التي يسوّق لها أصحاب الأقلام المأجورة، وليس العكس، وليسمح لنا مُدّعو العصرنة الموبوءة بتحمّل المسؤولية عن إخفاقهم في تنفيذ المهمة القذرة الموكلة إليهم، وتحميلهم وأسيادهم ومشغليهم مسؤولية الإخفاق في مصادرة الرأي العام وتوجيهه، وفق ما يريد أنصار ثقافة «الكاوبوي» وعنصرية من ينادون جهاراً بتفوقهم العرقي على العالم أجمع، وإصرارهم على اتخاذ «الغير» بكليته خدماً لهم، وأدوات مشروعة الاستخدام لنحر قيم الحياة، وحق الأفراد والدول والشعوب في الحياة وفق النموذج الذي يختاره كل شعب، وليس وفق شريعة الغاب التي لن تستثني وحوشها المفترسة من إمكانية التحوّل إلى فريسة في لحظة ما، وقد تتوافر كل معطيات ذلك في أي جولة من جوالات الصراع المزمن والمفتوح على المجهول.
*طالما أن الكلمة المقاومة تزعج أولئك الذين يدعون أنهم طلاب سلام وهدوء واستقرار وازدهار ورخاء وغير ذلك من مفردات تدفع سامعها إلى التقيّؤ وهو يرى الهوة بين ما يُقال، وبين ما يُمارس ويُطبق على أرض الواقع. فهذا يدفع المؤمنين بأهمية الكلمة لتذكير أولئك المتملقين بقوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)، فإذا كان مشغّلوكم على هذا القدر من السماحة والطيبة والحرص على الأمن والاستقرار والهدوء، فلماذا لا تنصحونهم وتكتبون لهم لتطليق وحشيتهم المفرطة، أو على الأقل تخفيف مظاهر الإبادة الجماعية الممنهجة لأبناء جلدتكم، بدلاً من الاستماتة لتبرير تلك الجرائم التي لم تعُد قابلة للقياس، ولم تشهد لها البشرية نظيراً عبر امتداد تاريخها الطويل؟
*إذا كان الإعلام المقاوم غير ذي جدوى ولا فائدة، ولا طاقة لعشاقه في مواجهة إمبراطوريات الإعلام الكبرى المسخّرة لخدمة سياسات واشنطن وتل أبيب، وإذا كان الكتاب المقاومون منفصلين عن الواقع كما تدّعون، فلماذا إصرار أسيادكم ومشغليكم على محاربة هذا الإعلام والإعلاميّين، وكيف يمكن تفسير ذلك مع حمّى حظر أصحاب الأصوات الحرة، ومنعهم من النشر عبر المنصّات التي يسيطر عليها أولئك الذين أثبتوا بالبراهين الدامغة أنهم أبعد ما يكونون عن كل ما له علاقة بحريّة الرأي والحق في التعبير عن وجهات النظر الذاتية المتناقضة جملة وتفصيلاً مع سياسة القهر والإقصاء والوأد عندما تتوفر إمكانية ذلك.
*الخطاب الذي يتبناه غالبية الكتَّاب المقاومين يبقى دون المواقف الرسمية المعلنة من قادة محور المقاومة ورموزها، في حين أن خطاب الآخرين وبخاصة أصحاب ثقافة التيئيس والإحباط هو أرفع بكثير من خطاب حكومة نتنياهو وإدارة بايدن. فمن هو المنفصل عن الواقع، ومن الذي يجب أن يغيّر مفرداته وطروحاته، ولتوضيح حقيقة هذا الأمر أكتفي بالإشارة إلى بعض الجوانب المتعلقة بسقوف خطاب الإعلام المعادي الرسمي، وبعض تصريحات العديد من المسؤولين الرسميين الحاليين والسابقين، ومنها:
ــــ مئات المقالات والتحليلات التي تؤكد على انسداد الأفق ووهم الحصول على أي صورة من صور النصر مستحيل التحقيق، وقد نقل الإعلام الإسرائيلي في الأيام القليلة الماضية عن نائب رئيس الأركان السابق ورئيس حزب «العمل» حالياً يائير غولان قوله لـ»القناة 12»: (أنا ملزم قول هذا وبشجاعة لكل الإسرائيليين.. «إسرائيل» لا تستطيع اليوم فتح حرب في الشمال).
ـــ نشرت صحيفة «هآرتس» العبرية منذ يومين تحليلاً يوضح أن (نظرية حزب الله القتالية أكثر تطوراً بكثير من مجرد تدمير المستوطنات، لقد نجح المخططون والاستراتيجيون في المنظمة خلال السنوات الـ 18 الماضية، منذ نهاية حرب لبنان الثانية، في بناء قاعدة معرفيّة عن كل مستوطنة تقريباً، صغيرة كانت أم كبيرة، وعن جميع أراضي «دولة إسرائيل»، وأصبحت في متناول يد حزب الله، من المؤكد أن مثل هذا العمل لرسم خرائط «ملفات المستوطنات» الذي يعتمد على الصور الجوية وصور الأقمار الصناعيّة (حتى لو كانت من مصادر علنية، مثل «غوغل إيرث» يشكل بالتأكيد إنجازاً مثيراً للإعجاب).
ـــ التصريحات المتتالية والعديدة التي أطلقها اللواء في الاحتياط، والمفوّض السابق لشكاوى الجنود في «الجيش» الإسرائيلي، إسحاق بريك، والتي تؤكد أنّ (الحرب في غزة «فقدت غايتها»، وأنّ استمرارها لنحو تسعة أشهر من دون تحقيق الأهداف المعلنة، يكبّد «إسرائيل» الخسائر على أكثر من صعيد… وإضاف: أنّ ــ الحرب على غزّة مستمرة فقط من أجل مصلحة رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو»… ووصف بريك ما يجري في رفح بـ»العار»، موضحاً أنّ «الجيش» لا يقاتل حماس بشكل فعلي، بل إنّها «تفخخ الطرقات ونحن نُقتل»، وقال: «قلصنا قدرة الجيش في 20 عاماً حتى بات لا يمكنه الانتصار على حماس»، متحدثاً عن «هزيمة استراتيجية لم تشهدها إسرائيل منذ إنشائها»، في ظل الحرب المستمرة).
ــ يمكن للمهتمّين بهذا الشأن متابعة تصريحات رئيسي الوزراء السابقين إيهود باراك وإيهود أولمرت، والوزيرين المستقيلين من كابينيت حرب نتنياهو: بني غانتس وغادي آيزنكوت، وقبل هذا وذاك من حق من يودّ معرفة الحقيقة أن يتساءل: ماذا يعني إقدام نتنياهو على حل مجلس الحرب المصغّر الذي تمّ تشكيله للتغطية على الإخفاقات الإسرائيلية المدوية منذ السابع من تشرين الأول، وما حلّ ذاك الكابينيت إلا اعتراف صريح وعلني من نتنياهو نفسه بالعجز عن تغطية الإخفاقات، وإضافة إخفاق آخر هو الأكثر وضوحاً بالإعلان عن حل «مجلس الحرب المصغر» واستبداله بمجلس للمشاورات، وكل المعطيات تشير إلى أن الوقت لن يطول حتى يرى العالم ويسمع بما لا يخطر على الذهن من تداعيات تنتظر ذاك الكيان المؤقت المنقسم على نفسه والعاجز عن تحقيق أي هدف استراتيجي تم رفعه في سوق تداول عملة صدئة وفاقدة لصلاحية التداول في أسواق بورصة القيَم والأخلاق التي تعمل المقاومة بكل أطرافها وأقطابها على إعادة ضخ الدماء في شرايينها وإعادة الحياة إليها بما ينسجم والقانون الدولي ويتفق مع قيم المجتمع الإنساني وأعرافه، ولن يصحّ في نهاية المطاف إلا الصحيح، وإن كانت التكلفة عالية، فأصحاب الحق والإرادة يعرفون كيف يدافعون عن حقوقهم، وكيف يرغمون الأعداء على دفع الفاتورة الأعلى لأنها فاتورة وجود أو زوال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى