47 عاماً من الدم الفلسطيني على رحيل شريعتي
} د. محمد حسين بزي*
أعلم أنّ هذه المقالة مغايرة ومفارقة لكلّ ما سبقها من مقالات أو مقدمات كنتُ كتبتها، ولكنّني تعمّدتها محتسباً «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».. ولربّما أدركني فيها من كتاب شريعتي علينا ما أدركني.
لأكثر من ثلاثين سنة وأنا أكتب وأقدّم كتب المرحوم الدكتور علي شريعتي باللغة العربية، وأحقّق وأعلّق على بعضها أحياناً، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أنّني أُشرف على طباعتها ونشرها في كلّ الأحايين حتى ناهزت 37 كتاباً امتدّت لثلاثين سنة مرّت من العمر كأنّها البارحة أو أدنى..
نعم، هكذا تمرّ السنون، وهكذا يمضي العمر في برهة كأنّها الومضة الخاطفة التي تذكرها؛ لكن قد لا تذكرك إلّا إذا بصمت في التاريخ بصمة غير مفارقة، وهذا ما ستحكم عليه ضمائر الأجيال التي أراهن عليها.
لقد بدأت في نشر كتب شريعتي سنة 1992م. عندما كان اسم شريعتي يثير الرعب؛ فضلاً عن السخط الذي يصل إلى حدّ يهدّد حتى حياتك، لكنّني لم أعِر بالاً لكلّ من خوَّف، ولكلّ من حارب على أكثر من جهة، ومن قِبَل أكثر من جهة طيلة تلك السنوات، لأنّني ببساطة كنتُ ولا زلتُ أؤمن بـ «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا»، مضافاً إليه: إنّ النهايات تكتب أصحابها.
هكذا مضيت مع شريعتي، وهكذا تابعت مع شيخ الإشراق السهروردي – في تخصّصي الأكاديمي – وها أنا أكمل الآن مع جردانو برونو الراهب الفيلسوف الذي أعدمته الكنسية الكاثوليكية في روما سنة 1600م حرقاً بالنار؛ لأنّه قال بلا نهائية الكون وأفكار أُخر لم يستوعبها الصندوق المقدس. والملفت أنّ الثلاثة – شريعتي، السهروردي، برونو – كانوا من ذوي الأعمار القصيرة بمقياس البصر لا البصيرة.
والحمد لله أنّني أنهيت في وقت قريب روايتي «أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون» ونشرتها بما يرضي مولانا الرومي كما أظن.
أمّا وقد تجاوزت الخمسين من هذا العمر الذي لا أعلم متى يأذن ربي بندائه وينتهي بلقاء أسلافي؛ يبقى عليّ أن أتمّ نشر بقية تراث شريعتي باللغة العربية (حوالي 15 كتاباً)، وأيضاً، أن أكمل كتابة مذكراتي التي أظنّها ستكون ذاكرة نصف قرن مكنوز بالعِبرة والعَبرة لمن سيأتي بعدنا.. ذاكرة تربية وبيئة وثقافة وحياة شخصية، ذاكرة تاريخ وأدب وشعر وسياسة وأحزاب ودين ومذاهب وفرق وأفكار وعقائد وأحداث ووقائع عاصرت وعايشت فيها من ذوي الأرواح اللطيفة وغير اللطيفة في أكثر من عشرين بلد..! هذا ما أدعو الباري تعالى أن يوفقني إليه، وألا يوقفني عليه.
وكما جرت العادة، لا بدّ من وقفة مع شريعتي في ذكرى رحيله الـ 47، ولكن هذه المرّة سأقف مقابل شريعتي كطفل فلسطيني، كمرآة نجيبة التي لا تعرف إلّا الطين أصلاً، ولا تعترف إلّا بالنور فصلاً، وأصرخ من داخلها.. من الظل الممهور بروحها في الأجيال المقهورة على أعتاب السنين، وأصدح في الأعالي الموغلة عندما تسافلت العقول باسم الدين والحرية والمذهب، وأصدع بما أُمِرْتُ به من شهادة على قلمي الذي حاولوا كسره لأكثر من ثلاثين سنة ووقاني الله شرّ مشارطهم، وشرور شروطهم، وشطور خبزهم، وشرير موائدهم، وشرارات دهائهم ـ التنويري ـ عندما زوّرا الشعلة الخلّاقة بنار النمرود، وادّعوا وصلاً بإبراهيم ليفصلوا فلسطين عن جسد أمة حفيده محمد، وبعد قتل كل بائعي الياسمين في إعلامهم الرجيم، ما برحوا الآن يحاولون اقتطاع فلسطين لشذاذ الآفاق هدية سهلة التطبيع والتمييع والتلميع باسم وحدة وسماحة الأديان، هذا، وغزّة تُباد عن بكرة هاشم، وأشلاء أطفالها صارت وشوماً ورجوماً في سماء العروبة المغتَصَب.. فيا لله المتعال ويا للضاد المتهالكة.. ويا لشريعتي الذي يُقتل في كل يوم ولا يساوم حتى من قبره الشامي، وهو الذي قال يوماً في كتابه «تاريخ الحضارة»: «عندما تُلغى فلسطين من الوجود، ويُحتلّ بيت المقدس، ولا نسمع إلّا أصواتاً قليلة من علمائنا؛ فستكون كل الشعارات الدينية مجرّد مجموعة من الألفاظ التي لا تعني شيئاً». فيا أيّها المعلّم، يا صاحب الوجد العميق في مهج الثوار، إنّ ما تبقّى من أطفال غزّة هاشم ومنذ تسعة أشهر؛ باتوا في العراء، ولا كهف يأويهم ولا خيمة تحميهم من صواريخ أميركا التي قلت عنها في كتابك مع «أعزائنا المخاطبين»: «أميركا! أميركا! هذه البلاهة العظيمة، وهذا التوحّش المتمدّن، والبدوية العصرية..، والغزاة باسم القانون والحظ السعيد القذر، والحرية الهشّة، والديمقراطية الحمقاء، والتفرّد المصبوب في قوالب موحدة.. وأخيراً أميركا هي تلك الجاهلية العربية، بنبلائها القرشيين وعبيدها الحبشيين، وكعبتها المسمّاة تمثال الحرية، وسوق عكاظها المسمّى وول ستريت… وهنا وهناك وهنالك وفي كلّ مكان، طوائف يهود بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع أصحاب أسواق المال والذهب والمجوهرات، حتّى أصبح حجم تأثيرهم أكبر بملايين المرات.. كلّ جَمَل بسنامين، يقابله قاذفة القنابل القاتلة (Boeing B 52 Strattofotress) من سلاح الجو، ودار ندوة المشايخ صارت وكالة المخابرات المركزية C.I.A، وكلّ أبي لهب هو جون فوستر دلاس وهنري كيسنجر، وكلّ حمّالة حطب هي حامية الأصنام العفريتة السيدة آنا إلينور روزفلت، وكلّ وحشي قاتل الحمزة هو مويس تشومبي أو الجنرال لونول وفان تيو!».
وأخيراً أيّها المعلّم، وبعد 47 عاماً على رحيلك (19/6/1977)، هذه فلسطين لا زالت جرحك وجرحنا الحقيقي الذي بقي ينزف منذ 1948، لكنّه الآن (2024) يحترق بنار العرب قبل الصهاينة، ولا من مغيث سوى فئة قليلة قد رحمها ربي بنار الأعمار القصيرة، وتوهّجت على الموت بنور البصيرة.
*شاعر وروائي لبناني، مدير عام دار الأمير في بيروت، ناشر أعمال شريعتي باللغة العربية.