السيد نصرالله ربح الحرب بالنقاط … ولا يمانع الربح بالضربة القاضية
ناصر قنديل
– ثمانية شهور ونصف تفصل بين الخطاب الأول للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بعد طوفان الأقصى، الذي رسم فيه معادلات دور جبهة الإسناد اللبنانية للشعب والمقاومة في غزة، وخطاب الأمس الذي أعاد فيه رسم معادلات جديدة لهذه الجبهة ومن خلالها لمستقبل الحرب. وإذا أردنا استخلاص عنوان لخطابه الأول بعيداً عن مساجلة المشككين، سيكون الحرب بدأت بين محور المقاومة وكيان الاحتلال ونحن في قلبها ومعادلتنا هي الربح بالنقاط وتفادي الانزلاق إلى الحرب الكبرى. وخلفيّة هذه المعادلة تنطلق من ادراك ان ما أنجزه الطوفان تاريخي، وأن الحرب الكبرى في ظل إجماع داخلي في الكيان والتفاف دولي غربي سياسي وعسكري وشعبي حول الكيان واحتمالات عربية حكومية وشعبية غامضة حول كيفية التفاعل مع الحرب، قد تكون وصفة يسعى إليها الكيان لتضييع لحظة الطوفان وأبعادها ومعانيها، عبر جر المنطقة الى حرب اقليمية تكون أميركا طرفاً فيها، لا تنتهي بنصر حاسم لأي من فريقيها، محور المقاومة والحلف الأميركي الإسرائيلي، لكنها توجه ضربة قاسية لمكانة المقاومة في فلسطين، وتحمّل محور المقاومة مسؤولية دمار مجاني للعديد من عواصم المنطقة ومدنها، وتصبح مدخلا لهدنة طويلة يحكمها توازن سلبي في موازين القوى، لا تملك عبرها المقاومة فرص إنهاض خيار شعبي يثق بأنها وصفة النصر والتحرير، وتستعيد خلالها القوى التقليدية في النظام العربي زمام المبادرة في القضية الفلسطينية من بوابة إعادة الإعمار ورعاية السلطة الفلسطينية كخيار مقبول غربياً وعربياً.
– خلال ثمانية شهور فصلت بين خطاب 3-11- 2023 وخطاب 19-6-2024، تحمل السيد نصرالله ومعه حزب الله ومؤيّدو المقاومة في لبنان الكثير من الانتقادات التي بلغت حد التشكيك بجدية الموقف الداعم لغزة والمقاومة فيها، وطعنت بفاعلية الإسناد الذي تقدمه جبهة لبنان. تراكمت الوقائع والأحداث التي قالت إن جبهة حزب الله نجحت وفق قواعد الاشتباك التي رسمتها قيادة حزب الله، وعلى رأسها السيد نصرالله، بالتحول الى مصدر الصداع الرئيسي لكيان الاحتلال وقادته السياسيين والعسكريين، ووصل الأمر حد القول في مجلس الحرب قبل تفككه، إن المطلوب نقل ثقل الحرب الى الشمال، ولو على حساب مواصلة الاندفاع في معركة رفح وسائر أنحاء غزة، ويكفي تذكر ما يقوله قادة الكيان لعدم الخوض في تقديم الاثباتات على نجاح استراتيجية نصرالله وحزب الله في خوض حرب الربح بالنقاط، وفرض المعادلات التي رسمها على جيش الاحتلال وقيادته السياسية والعسكرية، سواء بعائدات التهجير او إصابة قدرة الردع في الصميم او خلق التحدي التصاعدي المفتوح بلا حلول لإمساك حزب الله بالمبادرة العسكرية في هذه الجبهة.
– في خطاب 19-6 يبدو السيد نصرالله مبتسماً وهو يعلن عدم الرغبة في الخوض في نقاش الاحتمالات حول الحرب الكبرى، رغم أنه يرجح استبعادها كما يظهر من بين سطور خطابه، ذلك أنه يريد استثمار اللحظة للتحدث عن عدم الاهتمام بنقاش الفرضيات والاحتمالات، لصالح أولوية الجواب عن الموقف والقرار والجهوزية. فالحرب الكبرى لم تعد مصدر قلق، وتفاديها لم يعُد هدفاً، رغم أنها لم تتحول الى مشروع بديل لمشروع الربح بالنقاط، بل صارت المعادلة، نحن ماضون بالربح بالنقاط وإن أراد الكيان الذهاب الى الحرب الكبرى فلا مانع لدينا من الربح بالضربة القاضية ونحن مستعدون وجاهزون لتحقيق ذلك. فماذا جرى بين الخطابين؟ وهل كان ذلك كفيلاً بتبديد مصادر خطر تحول الحرب الكبرى إلى وصفة يمكن للكيان تفادي الهزيمة الساحقة فيها، الى حد اعتبارها بوليصة تأمين في مواجهة طوفان الأقصى؟
– الواضح أن حسابات حزب الله والسيد نصرالله لآليات معادلة الربح بالنقاط قد أصابت أهدافها بالدقة والتفاصيل، فعلى جبهة الكيان تمت خسارة كل عناصر القوة بالتدريج، أي بالنقاط، حيث أصيب الشارع في الكيان في الصميم وحل التفتت والتمزق وصولاً الى التصادم مكان الوحدة وراء قرار الحرب والانتقام، وليست مصادفة أن تكون طلالة السيد بخطابه الأخير تأتي بالتزامن مع وصف بنيامين نتنياهو لحال الكيان بالقول إنه عشية الحرب الأهلية، وبالتوازي أصيب المشهد السياسي في الكيان بالانقسام، وتفكك مجلس الحرب، الذي كانت ولادته علامة على درجة جاذبية الحرب في توحيد الخصوم في ظل وهم النصر، وكيفيّة تبدل الاتجاه مع القلق من خطر الهزيمة، والحكومة التي لا تزال تبدو متماسكة معرضة لمفعول العوامل ذاتها التي فككت مجلس الحرب، وهي لذلك باتت معرّضة للاهتزاز، وربما يعتقد بعض الخصوم لنتنياهو أن حديثه عن الحرب الأهلية هو تهديد بها أكثر مما هو تحذير منها، فربما تكون قد صارت وصفته البديلة عن الحرب الكبرى، إذا استشعر خطر سقوط حكومته أو انهيار الاغلبية التي تحميها من السقوط في الكنيست، أما عسكرياً فان الجيش قد أصيب في بنيته البشرية وفقد قرابة نصف التشكيل النظامي بين جريح ومعاق ومصاب بصدمة نفسية ورفض للخدمة ومتسرّب من الالتحاق، وفقد نصف آلياته، وفقد أكثر من نصف قوة الاندفاع والروح القتالية، وصارت معركة رفح وحسمها بنصر بائن مجرد سراب. وأظهرت المقاومة في غزة قدرات أثارت الاعجاب بفعالية عملياتها من جباليا وبيت حانون الى رفح ومعبر نستاريم.
– في الخارج لم تكن حال الكيان أفضل من الداخل، فقد تبددت أيضاً نقاط القوة التي كان يستند إليها عند بدء الحرب، وقد نجحت الحرب بتحييد العامل العربي السلبي من المعادلة، رغم أن التطلع لدور إيجابي نشط لم يبصر النور. وقد أظهرت المقاطعة التي مثلت التعبير الأبرز للشعب العربي عن تضامنه مع غزة، كما أظهرت استطلاعات الرأي في دول الخليج التي أجرتها شركة غلوب الأميركية ومجلة فورين أفيرز ان 90% من الذين شملهم الاستطلاع ينظرون بسلبية نحو أميركا ويطالبون بقطع العلاقات مع الكيان ويرفضون التطبيع، وظهر بالتالي ضعف النظام العربي وعجزه وفقدانه القدرة على التحرك سواء لاتخاذ موقف يحفظ ماء الوجه في الوقوف مع غزة، أو في المجاهرة بالانضباط تحت السقف الأميركي من الحرب، كما قالت المواقف الرافضة للمشاركة في حلف حارس الازدهار لمواجهة أنصار الله في البحر الأحمر. أما دولياً فقد حدث ما لم يكن متوقعاً، وجاء انفجار الغضب الشعبي والطالبي بوجه حكومات الغرب وحكومة الكيان وجيشه فوق حدود التوقعات، وصار الكيان وصمة عار على جبين الحكومة التي تدعمه او تحتفظ له بمكانة خاصة، وبدأت دول الغرب بالاعتراف بدولة فلسطين، وصوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبية كاسحة لصالح دولة فلسطين عضواً كاملاً في المنظمة الأمميّة، وتغير أداء محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وصار الكيان وقادته رمزاً للجريمة بحق الإنسانية وجرائم الإبادة، وصارت فلسطين رمزاً للحرية.
– على ضفة محور المقاومة، والمقاومة في لبنان خصوصاً، عبرت المقاومة اللحظة الحرجة الأولى مع الرد الإيراني الرادع الذي أظهر أن اليد الإيرانية باتت هي العليا في الإقليم، وأن الكيان بدون تدخل أميركي كامل معرض للتدمير، وان اميركا لم ولن تسمح للكيان باستدراجها لحرب اقليمية تخشى التورط فيها، ثم عبرت المقاومة اللحظة العسكرية الحرجة عندما نجحت في رسم معادلات دقيقة وحساسة ضمنت الاحتفاظ بزمام المبادرة تحت سقف عدم الذهاب الى الحرب الكبرى، رغم الضربات القاسية التي وجهها لها الاحتلال منذ اغتيال الشيخ صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت، والاغتيالات التي طالت قياديين في المقاومة لاحقاً، ولم يعد موضع نقاش بأن اليد العليا شمالاً هي للمقاومة، فهي من يقيم حزاماً أمنياً في الجغرافيا الفلسطينية وليس الاحتلال من يقيم حزاماً في الجغرافيا اللبنانية، والتهجير رغم آلامه اللبنانية، ليس حاضراً في السياسة لأن النازحين بيئة مؤيدة للمقاومة مستعدة للتضحية والتحمل، بينما تحول التهجير إلى قضية سياسية بنيوية من الدرجة الأولى في الكيان، ومثله الاقتصاد، ومثلهما تآكل وتهالك قدرة الردع. وكان العبور الثالث للمقاومة من خطر اللحظة الحرجة اللبنانية الداخلية، حيث نجحت معادلة الربح بالنقاط في توفير أغلبية لبنانية تؤكد على ثقتها بحكمة قيادة المقاومة في إدارة الحرب وتتمسك بها كقوة ردع، ولو كان للبعض آراء واجتهادات حول تفاصيل وحدة الساحات أو مبدئها، فالساحة الإسلامية بكاملها موحدة حول أداء المقاومة، وفي الساحة المسيحية قوة ترجيح لهذه الأغلبية اللبنانية لصالح المقاومة، مع موقف حكومي مريح.
– كلام السيد نصرالله أمس، يقول إن المقاومة ربحت الحرب بالنقاط، وإنها لم تعد في وضعية المتحفز لتفادي ما يسمّى بـ التدحرج نحو الحرب الكبرى لتقوم بما يلزم لتفاديها، بل إنها لا تمانع الآن من الربح بالضربة القاضية، إذا ارتكب الاحتلال الحماقة الكبرى، وهي واثقة بما لديها من قوة بشرية وتسليحية ومن دعم شعبي وسياسي. كما هي واثقة من مأزق الكيان وعجزه وضعفه ووقوعه على فوالق التفكك الوجودية العادية، التي تسرع مفاعيلها نيران الحرب، إذا قرّر خوض غمارها.