رسالة من لاجئ بين نكبتين إلى فخامة الرئيس محمود عباس
} أحمد عويدات
بادئ ذي بدء أستسمحكم عذراً فخامة الرئيس لسوء التعبير؛ لكوني لا أجيد اللغة الدبلوماسية التي تجيدونها، ولا التكتيك السياسي الذي تمارسونه سيادتكم. أنا لاجئ وُلدتُ وترعرعتُ في أزقة المخيم المليئة بالحفر وواحات المياه الآسنة والمآسي اليومية، استقرّ فيه والداي بعد رحلة لجوء مضنية من بنت جبيل في لبنان، إلى حمص وحلب وأخيراً إلى دمشق؛ هرباً من بطش وإرهاب العصابات الصهيونية شتيرن والهاغاناه والأرغون، التي اجتاحت مدينتنا صفد، كما حدث مع مئات الآلاف من شعبنا في كافة المدن الفلسطينية إبان نكبة 1948. كما يحدث اليوم في غزة من تهجير وإرهاب وجرائم. لقد عشنا بمنزلٍ بنيناه على مراحل، وكان أفضل قليلاً من خيم ومآوي النازحين في غزة الآن. ودرسنا في مدارس الأونروا التي تُقصف اليوم بعدما تحوّلت إلى مراكز إيواء للنازحين. وكنت وأشقائي مثل كلّ أبناء اللاجئين في الشتات نعمل بالصيف لمساعدة أُسرنا. كنا نبيع الجرائد اليومية والمجلات، ونتصفح الأخبار. وأسّس والدي أول مكتبة في المخيم اسماها «مكتبة فلسطين» والتي كانت بمثابة مركز ثقافي صغير؛ كما وصفها الأستاذ صمادي في كتابه عن مخيم اليرموك، وكانت القراءة فيها مجاناً للصحف والقصص. ومن ثم تحوّلت إلى أول مطبعة هناك. وكانت فلسطين هي التسمية الرائجة لكثيرٍ من المهن «صيدلية فلسطين، ملبوسات فلسطين، معهد فلسطين، حدادة، منجرة، غذائيات، مطعم، مخبز معهد، شارع، مدرسة، مخبر، مشفى فلسطين إلخ… كلّ ذلك لتبقى فلسطين حيةً في ذاكرة الأجيال، ولا تمحوها جرائم الاحتلال ومحاولات التهويد وسرقة التراث والتاريخ.
عذراً لخصوصية ما أحدثكم به فقد كانت أسماء شقيقاتي «أمل، حياة، صباح، عائدة، رجاء، وفاء»، وجميعها تحمل ما تحمل من معانٍ. ولعلّ هذا كان مألوفاً في معظم الأسر الفلسطينية تيمّناً بأمل العودة وفجر الحياة المقبلة. وكانت أسماء الذكور السائدة آنذاك «جهاد، كفاح، صامد، ثائر، فداء، نضال» لقناعتهم بالمقاومة. كنا ننتظر «الإعاشة» آخر الشهر لنبيع نصفها ونشتري بها لوازم أخرى تحتاجها أسرتي التي تعدُّ 14 فرداً، ولكن لم نكن نركض وراء شاحنات المساعدات التي هاجمها المستوطنون من ميليشيات نتنياهو، وهي في طريقها إلى غزة. ولم تكن هناك إنزالات انتخابية للمساعدات أو رصيف عائم دعائي لـ «الإنسانية الأميركية».
لقد عشنا ظروفاً قاسيةً، لكنها ليست بمثل ظروف أهلنا في غزة هذه الأيام، وأطفالهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. لم نشاهد أبداً هذا الموت «اللحظي» للأطفال والنساء، ولم نعش هذا الكمّ من المجازر اليومية، وهذه الإبادة الجماعية بكلّ أشكالها وصورها التي تشهده غزة اليوم على أيدي أحفاد تلك العصابات الصهيونية وداعميهم، ولم نعانِ من حرب التجويع والتعطيش الذي فتك بأطفال ورضع غزة؛ لقد كان آنذاك التآزر والمروءة والشهامة حاضرة، وبمساعدة الأشقاء انتصرنا بمعركة الحياة كما هو الحال في كلّ أماكن اللجوء، فأصبح لدينا أعداداً وافرة من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين ونخبة الأكاديميين والمعلمين والخبرات المختلفة، وتميّزت مجتمعاتنا عن غيرها واحتضن شعبنا ثورته وقواها كما هو اليوم.
تعرّضت مخيماتنا للقصف والتدمير، لكن لم نشاهد هذا التدمير الممنهج للأحياء والمخيمات بأكملها، وللأبنية والبنى التحتية وحصار المشافي، وقتل طواقمها ونزلائها من المصابين والمرضى. ولم نعش هذا الخذلان من قبل الأشقاء العرب والأصدقاء كما نعيشه الآن يا سيادة الرئيس. لم نكن نتصوّر يوماً أنّ يغلق أشقاؤنا المعابر ويمنعوا المساعدات عن أهلنا، ويمدّوا بها الأعداء.
كانت الثورة آنذاك بخير، وكانت السند للوالد والولد وكانت البنادق لا تزال مشرعةً، ولم يجرؤ أحد أن يتطاول على حق شعبنا بالنضال للتحرير والعودة، برغم كلّ محاولات التآمر وتصفية الوجود الفلسطيني، وشق منظمة التحرير وحركة فتح واغتيال قادتها، وضرب المخيم الشاهد والشهيد على مأساتنا. كانت هناك – كما تعلم سيادة الرئيس – الكثير من المشاريع التصفوية والمبادرات السياسية، من مشروع روجرز وقرار 242 الذي رفضناه إلى مرحلية بورقيبة عام 68 التي أسقطناها ومشروع المملكة المتحدة، ومرحلية 74 والنقاط العشر، واتفاقية سيناء وما تلاها من اتفاقيات كامب ديفيد، ووادي عربة، وأريحا أولاً، وغزة أولاً وغيرها، إلى أن وصلنا إلى اتفاقات أوسلو وليتها لم تصل إلينا يا سيادة الرئيس. كلّ ذلك ولم نسمع بالتطبيع وملاحقه وتداعياته، إنما تآمر اليوم يتخذ شكلاً آخر داخلاً وخارجاً.
كان زمناً مختلفاً ولا كلّ الأزمان، كان الانتماء صلباً وكانت كل الأقلام تكتب وتروّج لثقافة المقاومة والكفاح المسلح والتحرير، لقد كتب ورسم المثقفون الثوريون بالدم لفلسطين، ولم يكتبوا مدحاً وإطراءً للرئيس. كانت هناك عمليات اغتيال جبانة لكُتابٍ وصحافيين ومناضلين وقادة ثوريين، لكن لم يكن هذا الاغتيال والإعدام بدمٍ بارد لمئات الصحافيين والإعلاميين والكتّاب، والأكاديميين والعلماء والأطباء، لم يكن الإجرام بهذه الفظاعة والعدد الهائل في نكبتنا الجديدة.
وفي ذكرى أخرى في صغرنا، كنا نطير فرحاً عندما نرى فدائياً يمرّ بجوارنا، وكنا نرتاد مقبرة الشهداء في صباح العيد تقديراً لتضحياتهم. وكنا نندفع إلى الشوارع بمظاهرات غاضبة على أيّ عدوانٍ على شعبنا، أو لرفض مشروعٍ تصفويٍّ جديد. ولم يكن لدينا أمن وقائي لتفريقنا أو كمّ أفواهنا، ولا أمن وطني أو رئاسي أو مخابرات عسكرية لاعتقالنا، ولم نكن نسمع بسلطة دايتون، ولم نألف عبارات دخلت مسامعنا حديثاً مثل «التنسيق الأمني»، ومنطقة «أ» و «ب» و «ج»، واتفاقات أوسلو، ومقر الرئاسة». كان لنا مفخرة أن نشارك في تشييع الشهداء، واستقبال الأسرى المحررين، والمظاهرات والمناسبات الوطنية، ونهتف «سحقاً سحقاً بالأقدام يا دعاة الإستسلام»، «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف» بما عرف حينذاك بلاءات الخرطوم، ولم يكن أحد يهتف للرئيس…
وكنا ـ رحم الله تلك الأيام ـ يا سيادة الرئيس، نتسابق للحصول على بيان صادر عن «قوات العاصفة» حول آخر عملية فدائية قاموا بها، وكنا نتحلق حول المذياع «صوت فلسطين… صوت الثورة الفلسطينية» لمتابعة مستجدات «معركة الكرامة» وحرب الاجتياحين في لبنان ومعارك الدفاع عن شعبنا، ونخرج إلى الشوارع ننشد «عهد الله ما نرحل.. نموت نجوع ما نرحل»، «طالعلك يا عدوي طالع من كلّ بيت وحارة وشارع»، تماماً مثل ما يحدث اليوم في قطاع غزة من رفضِ للتهجير القسري، ولم يكن لدينا تلفاز لنرى ما نراه اليوم من فظائع وجرائم الإبادة الجماعية، وفي المقابل نرى هزيمة الجيش الذي قيل إنه «لا يُقهر» نراه يُقهر على أيدي أبطال المقاومة. لم يكن لدينا تلفاز يبث مباشرة جلسات القمة العربية لنرى أحدهم يتثائب، وآخر يغط بالنوم، وثالثاً يتلهّى بجوّاله، وآخرين يتبادلون أطراف الحديث معاً.
إنها قمة المنامة، اسم على مسمى؛ نام فيها الزعماء، ونامت قضيتنا، ولم يترحّم أحد على شهداء العدوان، ونامت حتى إدانة الاحتلال على جرائم الإبادة الجماعية، ونامت تحية وشكر دول جنوب أفريقيا ونيكاراغوا وكولومبيا وتشيلي وبوليفيا وفنزويلا على مواقفهم الداعمة لفلسطين. ونامت التحية لمظاهرات واعتصامات طلبة الجامعات ونخبها في أنحاء العالم. هل هؤلاء من يُراهن عليهم يا فخامة الرئيس؟ وهل هذا المكان والزمان المناسب لفتح ملفاتنا الداخلية ونكيل الاتهامات ونحمّل المسؤوليات لبعضنا الآخر المقاوم، ونبرّئ عدوّنا من كلّ الجرائم التي ما زال يرتكبها منذ نكبتنا الأولى حتى هذه اللحظة ليس في غزة لوحدها، وليس فقط منذ السابع من اكتوبر؟ وهل حقاً يحتاج قادة الكيان إلى مبررٍ لقتل أكثر من 36 ألف فلسطيني جلهم من الأطفال والنساء، وإصابة نحو 80 ألف وتدمير 80% من القطاع وتشريد ما يقارب مليوني فلسطيني؟!
أليس الاحتلال يا فخامة الرئيس هو من تسبّب بهذه الجرائم سواءً في غزة أو الضفة كما خلص الرأي العام العالمي ومحكمة العدل الدولية إلى ذلك؟! فأين نقف يا فخامة الرئيس؟!
رحم الله ما قاله الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزيةٍ إن غوت
غويتُ، وإن تُرشد غزيةُ أَرشد
إنها قمة عربية الكلام لكنها أميركية القرارات.
فخامة الرئيس، كنا نتوقع أن تعلن سيادتكم النفير العام لشعبنا في كلّ أماكن تواجده؛ نصرة لغزة كما فعل القائد الراحل أبو عمار، عقب اجتياح 1982؛ لفك الحصار عن بيروت، والدفاع عن المقاومة. وتوقعنا مع هذا الإجرام اللامتناهي على شعبنا أن توقف هذا العبث السياسي مع الإحتلال وتعود «والعود ابو مازن» كما عاد القائد الرمز الشهيد أبو عمار عندما قال «شهداء بالملايين عالقدس رايحين». كنا نتوقع أن تندفع القوات الأمنية بعديدها الذي يزيد عن 60 ألف للدفاع عن غزة توأم الضفة لأمنا فلسطين. ألا يساورك إعادة الاعتبار «لقوات العاصفة و»كتائب شهداء الأقصى»؟ ألا تعتقد أنّ هذا سيحقق نوعاً من التوازن في موازين القوى مع العدو وتربط بين المقاومة السلمية – كما تسمّيها – والمقاومة المسلحة، لقد رأيتم سعادتكم ما أحدثه طوفان الأقصى من إنجازات وطنية برغم الآلام وأعداد الضحايا والتدمير الشامل للقطاع. لقد قالها الكبار إنّ العالم لا يحترم إلا القوي.
أسمح لي سيادتكم، أن أُذكّر بما قاله القائد الراحل أبو عمار مخاطباً العالم من على منصة الأمم المتحدة: «لقد جئتكم وبندقية الثائر بيدي وبغصن الزيتون الأخضر باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي… الحرب تندلع من فلسطين… والسلام يبدأ في فلسطين». بينما دبلوماسيتكم – يا سيادة الرئيس – بدت استجداءً للقاضي والداني… «احمونا.. منشان الله احمونا». وقلتم كلاماً لا يليق بشعبنا المناضل الصابر، لا داعي لذكره هنا.
ولعلنا لا نرفع سقف توقعاتنا بأن نراك تتسامى عن كلّ الخلافات والإنقسامات وتوحّد الصفوف وتقودنا إلى معركة التحرير والعودة. كنا نتوقع أن تخلع ربطة العنق، وتتزيّن بالكوفية، وترتدي البزة العسكرية، وتمتشق مسدسك الذي لم تحمله ذات مرة، حتى عندما كانت الثورة في أوجها آنذاك (كما صرّحت بذلك).
فخامة الرئيس، ألم تنتهِ مرحلة التكتيك السياسي التي مضت عليها عقود لنجري مراجعةً لكلّ سياساتنا ومواقفنا، وخاصةً هذه الأيام من الانتصارات في الميدان وفي الساحة السياسية العالمية والتي أفرزت اعتراف بعض دول أوروبا بالدولة الفلسطينية مؤخراً وباتت دولة الكيان معزولةً؟!!
ألم يحن الوقت لنعيد الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني الذي مُزِّق بحضور كلينتون؟ ألا يجدر بنا إصلاح مؤسسات منظمة التحرير على أُسسٍ وطنيةٍ واضحة لتتسع لجميع الوطنيين والقوى والفصائل؟ أليس حريٌ بنا أن نجري مراجعة داخلية لحركتنا فتح رائدة النضال الفلسطيني وقائدة الثورة الفلسطينية المعاصرة وانتفاضاتها برصاصها وحجارتها؟
لقد مضى 76 عاماً على نكبتنا، ألا يكفي- يا فخامة الرئيس – شعبنا هذا التشرّد والتشرذم وهذه الجرائم؟ ألا يكفي الرهان على الدور الأميركي الذي لم يكن يوماً وسيطاً بل طرفاً إلى جانب الكيان كما أظهر ذلك بلينكن مؤخراً في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى؟!! إنّ قادة الإحتلال وإدارة بايدن يتحدثون عن اليوم التالي في غزة بما يتناسب وأهدافهم، لما لا نتحدث نحن معاً عن يومنا التالي في فلسطين كلها؟!!
فخامة الرئيس :
إن لنا في السابع من اكتوبر مرحلة تاريخية جديدة، شهدت عودة الروح لقضيتنا، وأنارت الأمل مجدداً لدرب عودتنا، وواد نكباتنا.
وفي الختام، أود تذكيركم بما قاله شاعرنا محمود درويش لأبي عمار عقب الخروج من بيروت إلى المنافي…
«ماذا تريد؟ سيادة فوق الرماد؟
وأنت سيد روحنا.. يا سيد الكينونة المتحوّلة…
فاذهب فليس لك المكان ولا العروش المزبلة…
فاذهب إليك.. عد إليك
يا سيد الجمرة
يا سيد الشعلة
ما أوسع الثورة..
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة…