في ردهات حياة الأستاذ الدكتور حسين دشتي
محمد طاهر العصفور*
أهدى الأستاذ الدكتور حسين دشتي كتابه إلى أخيه عبد الرحمن وأبنائه وبناته، ثم تكلم ملتفتاً بالإهداء إلى أبنائه علي ومحمد وصادق وابنته مريم، وإلى أبناء أخيه المرحوم الحاج حسن، وإلى أبناء وبنات إخوانه وأخواته، وهذا يدلّ على طيب المحتد والعاطفة الجياشة تجاه رحِمِه، وإنْ دلّ على شيء؛ إنما دلّ على هذا الترابط الأسري الذي ينطوي عليه.
في كتاب بعنوان (حياتي) ذكريات مُصوَّرة الواقع في 592 صفحة من القطع الكبير، والصادر حديثاً عن دار الأمير في بيروت ـ في طبعة ملونة فاخرة ـ لم يمهل القارئ عبر عتبات طوال، بل وصف كتاب (حياتي) أقصد حياته هو ـ وهو عنوان مكرور بذكريات مصورة، وصدّر هذا الكتاب بآية من الذكر الحكيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) «الحجرات الآية 13».
وبين الإهداء والآية القرآنية صورة تقوى مظهرة التمسك بالذات المتكاملة؛ وعدم الجنوح إلى الاغتراب أو الاستلاب أو الضياع، وظلّ مقاوماً تلك الغربة بجدية واقتدار.
ويتلو الصفحتين قصيدة اختارها الدكتور دشتي من قصائد الشاعر العراقي مظفر النواب، نفح فيها بعض إنسانيته، وكانت تعيد بيروت والجنوب إلى الوجدان، واختار دشتي بعض أبياتها عن بيروت والجنوب والثورة:
***
يلومون أني أنفخ نار التراث
أنا أرفض الخردوات من الفقراء
ولي أمة طالما كل ناس لهم مدية
لغة طالما لغتي تشعل الأبجديات عشقا
وصريح أحب زوايا عيون النساء
صريح
وأمقت من يشهرون النصوص سيوفا
ومن يكسرون السيوف
كلا الانحراف ريح
وأمقت من يشهرون الحسين
لغير الوصول إلى ثورة
مثلما جوهر الأمر فيه والجنوح
لعلّ الحسين إذا ما رأى
طفلة في شوارع بيروت
تنهش من لحمها الشهوات
وثم شظايا من القصف فيها
سينكر مأساته
والجروح على رئتيه تطيح
يقولون: من أمها وأبوها
أقول: الجنوب وتاريخه…
والبيوت الصفيح…
وعدت أعترف
هو الجوع أكبر من آبائنا الثائرين
ومن كان هذا أبوه
تغلب فيه الجموح
متى ما يوزع هذه العمارات للفقراء
وتجز ألف انتهازية
***
وبين مدخل الإهداء الذي كان برّ والدين وصلة رحم وعطف أب وعم؛ كان الدكتور يسرد سجايا هي قوام شخصه وأسّ شخصيته، وعبر ما اختار من آية كريمة لاح فيها كيف ينظر إلى الآخر في كينونته وكيانه في تقوى الله ورضاه، ولا شيء يعدل كتاب الله إلا من ارتضى، ثم إنه انصرف إلى قصيدة النواب التي تقدم ذكرها، فنحن أمام شخصية تسرد ذاتها في دين وإنسانية، ويقرأ فيها المتلقي تلك الشخصية الكريمة الخصال.
ثم يقدم أحد أصدقاء الدكتور بعض الملامح عنه، ووسم كلمته بعنوان (رحلة في عمر الدكتور حسين دشتي)، وحاول الدكتور عبد الله عيسى بهبهاني أن يبحر في حياة صديقه الاستثنائية ـ من الوالدة إلى التقاعد ـ ويرى أنها اتسمت بالانتصار الهائل والشدائد العميقة، ومن ثنائه على صديقه قال: «ارتدى الدكتور الدشتي الكثير من القبعات، حيث تفوّق كعالم متفان، ومعلم ملهم وإداري ناجح في التعليم الطبي».
وإذا أمعنّا النظر في ما كتب الصديق عن صديقه، رأينا معجماً لافتاً من مثل استثنائية وملهماً، وغيرهما من الألفاظ الدالة على عدم النمطية، وتشي بشيء من الإبداع، وقد يكون من النمطي أن يكون الإنسان عالماً، لكنه ليس من الوارد في كلّ حين أن يكون متفانياً، وقد يكون معلماً، لكنه لن يكون ملهماً إلا إذا كان هذا الرجل يحمل شخصية استثنائية لفتت نظر القاصي والداني، والحق من مدخل سيرته المصوّرة الذي وصفته، بدا لي أنّ سعادة الدكتور المعلم والمختص بالطب إنسان بكلّ معنى الإنسانية، وصاحب خلق يجعله متفانياً في عمله وملهماً لطلابه، ولم تزده الشهرة التي يتمتع بها داخل وخارج وطنه الكويت إلا تواضعاً في خدمة الناس، كما لم توقفه المناصب الرفيعة التي تقلّدها إلا إصراراً على إعلاء اسم الكويت في المحافل الدولية والجامعات العالمية التي منحته من الجوائز والأوسمة أرفعها.
ويبدو هذا الرجل رغم بلوغه الـ 76 من العمر المبارك ألوفاً لذكرياته ـ كما قال المتنبي:
خُلِقتُ أَلوفاً لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا
لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا
لذلك جاءت سيرته مصوّرة ـ كما أحبّ ـ فتراه يستذكر صور الأصدقاء والأهلين ومكان السكنى، بيته القديم وبيت أهل… وهذا يدلّ على إنسان لا ينسى أصدقاءه، ولا يتجاوز أترابه، ويوليهم من قلبه مكاناً يليق بالصديق والقريب، وإذا كان المرء يملك من هذه الصفات النبيلة لا شك من أنه سيبني له قصوراً في قلوب زملائه وطلابه وفي آخرته، وذلك حُسْنُ المآب.
نسأل الله الكريم أن ينشئ في عمر هذا الأستاذ الملهم، وأن يجعل سيرته معلماً من معالم الاقتداء.
*أديب وعالم لغوي بحريني.