أولى

تحوّل استراتيجي للمقاومة في ردع العدو

‭}‬ أحمد بهجة‬

خلال حربِ تمّوز ـ آب في العام 2006، أكّدت وزيرةُ الخارجيّة الأميركيّة آنذاك وقائدةُ العدوان الصهيونيّ على لبنان ومهندسة “مشروعِ الشرقِ الأوسط الجديد” كونداليزا رايس بوضوح أنَّ العدوانَ “الإسرائيليّ” ليسَ عنصراً حاسماً في المعركة بل الصمود في وجه هذا العدوان. كانت تعلمُ أنّ مشروعَها سيتعثّر في حال صمدَت المقاومة في لبنان أمَام محاولة الغزو”الإسرائيليّ” له، بالرغمِ منَ الكمِّ الهائل من الصواريخ الثقيلة التي تساقطت من الطائرات الأميركيّة التي يقودها الصهاينة، ومن البواخر أيضاً، على الجنوب وضاحية بيروت الجنوبيّة فضلاً عن مناطق ومواقع أخرى في البقاع والشمال وجبل لبنان. وانتهى الأمرُ بفشلِ العدوانِ بفضلِ القتالِ الشرِس الذي خاضته المقاومة بما تيسّرَ لها من أسلحة وبمؤازرة البيئة الحاضنة لها وإنّ تحوّلت منازلها إلى ركامٍ وتهجَّرَ بعضها منها إلى مناطق بعيدة وبقيَ بعضها الآخر في خيامٍ نُصِبت فوق الأنقاض.
وتحقّقَ الانتصارُ بإفشال أهداف العدوان الأميركيّة و”الإسرائيليّة” وتقهقرَ الغزاة بعدما طلبَ رئيسُ وزراء العدوّ آنذاك إيهودا أولمرت وطاقمُه الحكومي وقفاً فوريّاً لإطلاق النار. كان الصمودُ في وجه العدوان العنصرَ الحاسم في المعركة، إلاّ أنَ المشروعَ لم يمُت…
فطيلة 18 سنة أعقبَت العدوان تواصلَ الجهدُ الأميركيّ، بالضغوط السياسيةّ والاقتصاديّة وحركة التطبيع الواسعة بين ما يُسمّى “دول الاعتدال العربيّ” والكيان الصهيونيّ لفرضِ هذا الأخير على المنطقة من جهة وتحضير تلك الدول لخوضِ المعركة الفاصلة الآتية ضدَّ المقاومة التي صارَت محوراً متكاملاً عن طريق المُساهمة في تطويق ومحاصرة حالة المواجهة والصمود لذلك المحور حتى إنهائه في كلّ جبهاته ودوله. وجاءَت عمليّة “طوفان الأقصى” الفلسطينيّة لتكشفَ المخطّطَ الأميركيّ لبسطِ السيطرة الكاملة على المنطقة بواسطة “إسرائيل” ولتُسقطَ أقنعةِ دول التطبيع العربيّ بالمساهمة بتطويق حالة الصمود للمقاومة الفلسطينيّة وبيئتها الحاضنة في قطاعِ غزّة خصوصاً وفي عموم فلسطين المحتلّة عموماً والشواهدُ العربيّة كثيرة في هذا المجال.
وكان المُقدَّرُ توسيعَ الجبهة العسكريّة بإتجّاه لبنان بعد القضاءِ على المقاومة في غزّة، لكنَّ المقاومة التي تنبّهت لهذا الأمر، سارَعت هي إلى فتح الجبهة بمساندتها للمقاومة في غزّة وإشغال العدوّ بمعركةِ إنهاك فرقه العسكريّة وجبهته المدنيّة الداخليّة ضمنَ خطوطٍ هي رسمتها له. وهنا التطوّر الأبرَز.
لم تعد المقاومة تعوِّل فقط على صمودِها هي والبيئة الحاضنة لها وهو مهمّ ولا يزال العنصر القويّ في حسم المعركة، لكنّه ليس هو الحاسم. وبمعنى آخر، انتقلَت المقاومة من مرحلةِ التصدّي للعدوان إلى مرحلة أكثر تطوّراً على المستوى الاستراتيجيّ، وهي الهجومُ الردعيّ إن صحّت التسميّة. وهذا ما ألمحَ إليه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله في خطابه الأخير في حفل تأبين الشهيد القياديّ في “المقاومة الإسلاميّة” الحاج أبو طالب.
“الحربُ خدعة” في المفهوم الكلاسيكيّ للحرب. دولةٌ تباغتُ أو تفاجئُ دولةً بعد طمأنتها إلى عدمِ وجودِ مخاطرَ تتهدَّدُ أمنَها وسلامة أراضيها، ثمّ فجأةً وفي حالة استرخاء، تجتاحُها الجيوش. في هذا الشقّ، عدّلت المقاومة مفهومَ المباغَتة. صحيح أنَّ السيّد نصرالله أكّدَ أنّ اجتياح الجليل المحتلّ هو أمرٌ وارد لكنّ المُباغِت للعدوّ كان ولا يزال هو في كميّة السلاح المتعدِّد الأوجه والنوعي والمتجدّد. فقد اعتمدَت المقاومة التدرُّج في استخدام سلاحها بحسبِ كلّ مرحلة على ما أكّدَ حزبُ الله مراراً ونجحَ في إرباك العدوّ المعروفة أسلحته ونطاق تواجده. وبذلكَ برزَت ميزةٌ مهمّةٌ للمقاومين عدا صفاتِ الشجاعة والعقيدة العسكريّة والاستعداد للشهادة، هي أنّهم من ذوي العقولٍ العلميّة، ويخوضون المواجهات ويُنفذّون عمليّاتهم على أسُس وقواعد علميّة ومنطقيّة بالرغمِ من استشهادِ عددٍ كبيرٍ من المقاومين وقسمٌ غيرُ قليلٍ منهم استُشهدَ بعمليّات اغتيالٍ غادرة بواسطة طائرات العدوّ.
وفي هذا السياق، ردَّ السيّد نصرالله على التهديدات “الإسرائيليّة” بشنِّ حربٍ واسعةٍ على لبنان والتي نقلَها المسؤولون الأميركيّون ومعهم العديد من المسؤولين الغربيين إلى لبنان في حال لم تتوّقف المقاومة عن مساندة غزّة، فأعلنَ السيّدُ نصرالله بحزمٍ، أنّ المقاومة في لبنان مستمرّة في معركتها مع العدوّ في الجبهة الشماليّة لفلسطين المحتلّة حتّى يتوّقفَ العدوانُ الصهيونيّ على قطاعِ غزّة وأهلِه، مؤكّداً بعد ذلك أنَّه في حال توسيع الحرب بإتجاه لبنان ستكون يدُ المقاومة هي الأعلى من خلال تحديد بنك أهداف حقيقيّ وكامل، معلناً عن جزءٍ منه وهو المعلومات التي عادت بها مُسيّرة “هُدهد” من مهمّتها الاستطلاعيّة فوقَ حيفا وجوارِها والاستعداد لدخول الجليل المحتلّ، والتلميح إلى إمكانِ تدفّق المقاومين إلى لبنان من دولٍ عدّة، مؤكّداً بالتوازي أنَّ لدى المقاومة كلّ العدّة للحربِ الواسعة فضلاً عن كفاية المقاتلين اللبنانيين في المواجهة المحتمَلة. فيما “إسرائيل” تعاني بشدّة من حالةِ جيشها الذي أفلتَ من يده زمامُ المبادرة في غزّة وفي جنوب لبنان بالتوازي مع الخسائر البشريّة الكبيرة التي يتكبدُّها كلَّ يومٍ باعترافات جنرالاته، مضافاً إلى ذلك الخلافات السيّاسيّة المستعرة بين أركان الطبقة الحاكمة وسط تنافسٍ ضارٍ على السلطة، وأيضاً الخلاف المستفحل بين نتنياهو وعدد من كبار قيادات جيشه، زائداً عدم قدرة الجبهة الداخليّة على الصمود لوقت طويل، علماً بأنّه بحسبِ طريقة السيّد نصرالله الذي لا يُفصح عن كلِّ ما عنده، بالإمكان التكهُّن بأنّ ما يُخفيه قد يكون أعظم.
وفي سياقٍ متصل وسّعَ السيّد نصرالله دائرة ردعه لتشملَ جزيرةَ قبرص (بوّابة أوروبا على ساحل المتوسّط) بتحذيرِه مسؤوليها من مغبّةِ استخدام “إسرائيل” أراضيها لشنّ عدوان على لبنان، إلاّ أنَّ الجزيرة استجابت وسارعَت إلى تأكيدِ أنّها لن تسمحَ بذلك لكنّها تركَت الباب موارباً من خلال إشارتها إلى أنَّ القواعد البريطانيّة فيها تتمتّعُ بوضعٍ خاص!
حتّى الآن، الوضعُ على ما هو عليه في الجنوب وفقَ وتيرةِ العمليّات المتبادَلة بين قوّات الاحتلال والمقاوَمة التي حوّلت المواجَهة إلى معركة إرادات وعقولٍ وعلمٍ وتبقى الأنظار شاخصةً إلى القائدِ الفعليّ للحربِ وهو البيتُ الأبيَض الذي حتّى الساعة ما زال يروّجُ للتهديدات “الإسرائيليّة” للبنان…

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى